إني جالس في تلك العشية التي قتل أبي صبيحتها وعمتي زينب عندي تمرضني، إذ اعتزل أبي أصحابه في خباء له وعنده حوي مولى أبي ذر الغفاري وهو يعالج سيفه ويصلحه وأبي يقول:
يا دهر أف لك من خليل * كم لك بالإشراق والأصيل من صاحب أو طالب قتيل * والدهر لا يقنع بالبديل وإنما الأمر إلي الجليل * وكل حي سالك السبيل فأعادها مرتين أو ثلاثا حتى فهمتها، فعرفت ما أراد، فخنقتني عبرتي فرددت دمعي ولزمت السكوت، فعلمت أن البلاء قد نزل، فأما عمتي فإنها سمعت ما سمعت وهي امرأة وفي النساء الرقة والجزع، فلم تملك نفسها أن وثبت تجر ثوبها وإنها لحاسرة حتى انتهت إليه فقالت: وا ثكلاه، ليت الموت أعدمني الحياة، اليوم ماتت أمي وعلي أبي وحسن أخي، يا خليفة الماضي وثمال الباقي.
فنظر إليها الحسين عليه السلام فقال: يا أخية لا يذهبن حلمك الشيطان.
قالت: بأبي أنت وأمي يا أبا عبد الله، استقتلت نفسي فداك، فرد غصته وترقرقت عيناه وقال: لو ترك القطا ليلا لنام.
قالت: يا ويلتا، أفتغصب نفسك اغتصابا؟ فذلك أقرح لقلبي وأشد على نفسي.
ولطمت وجهها وأهوت إلى جيبها وشقته وخرت مغشيا عليها، فقام الحسين فصب على وجهها الماء، وقال لها: يا أخية، اتقي الله وتعزي بعزاء الله، واعلمي أن أهل الأرض يموتون وأن أهل السماء لا يبقون، وأن كل شئ هالك إلا وجه الله الذي خلق الأرض بقدرته ويبعث الخلق فيعودون وهو فرد وحده، أبي خير مني وأمي خير مني، وأخي خير مني، ولي ولهم ولكم مسلم برسول الله أسوة. فعزاها بهذا ونحوه وقال لها:
" يا أخية، إني أقسم عليك فأبري قسمي، لا تشقي علي جيبا ولا تخمشي علي وجها ولا تدعي علي بالويل والثبور إذا هلكت. ثم جاء بها حتى أجلسها عندي