من القلب فنشرب ولا يشربون، فقال (أشرت بالرأي) وفعل ما قاله، وقد قال الله تعالى له صلى الله عليه وسلم (وشاورهم في الأمر) وأراد مصالحة بعض عدوه على ثلث تمر المدينة فاستشار الأنصار فلما أخبروه برأيهم رجع عنه، فمثل هذا وأشباهه من أمور الدنيا التي لا مدخل فيها لعلم ديانة ولا اعتقادها ولا تعليمها
يجوز عليه فيها ما ذكرناه، إذ ليس في هذا كله نقيصة ولا محطة وإنما هي أمور اعتيادية يعرفها من جربها وجعلها همه وشغل نفسه بها
والنبي صلى الله عليه وسلم مشحون القلب بمعرفة الربوبية ملان الجوانح بعلوم الشريعة مقيد البال بمصالح الأمة الدينية والدنيوية ولكن هذا إنما يكون في بعض الأمور ويجوز في النادر وفيما سبيله التدقيق في حراسة الدنيا واستثمارها لا في الكثير المؤذن بالبله والغفلة وقد تواتر بالنقل عنه صلى الله عليه وسلم من المعرفة بأمور الدنيا ودقائق مصالحها وسياسة فرق أهلها ما هو معجز في البشر مما قد نبهنا عليه في باب معجزاته من هذا الكتاب.
فصل وأما ما يعتقده في أمور أحكام البشر الجارية على يديه وقضاياهم ومعرفة المحق من
المبطل وعلم المصلح من المفسد فبهذه السبيل لقوله صلى الله عليه وسلم (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى له على نحو مما أسمع،
____________________
(قوله ألحن بحجته) في الصحاح اللحن - بالتحريك - الفطنة وقد لحن وفى الحديث (ولعل أحدكم ألحن بحجته) أي أفطن بها، ومنه قول عمر بن عبد العزيز: عجبت لمن لاحن الناس كيف لا يعرف جوامع الكلم فاطنهم انتهى