لبنة، وأصلها ما يبنى به من طين. قوله: (فتلقانا فيها رجال شطر من خلقهم)، هذا الإطلاق يحتمل أن يكون المراد أن نصفهم حسن كله ونصفهم قبح كله، ويحتمل أن يكون كل واحد منهم نصفه حسن ونصفه قبيح - والثاني هو المراد، ويريده قوله في صفتهم: (هؤلاء قوم خلطوا) أي عمل كل منهم صالحا وخلطه بعمل سئ.
قوله: (فقعوا في ذلك النهر) بصيغة فعل الأمر بالوقوع، والمراد أنهم ينغمسون فيه ليغسل تلك الصفة بهذا الماء الخاص.
قوله: (كأن ماءه المحض) بفتح الميم وسكون المهملة بعدها ضاد معجمة، هو اللبن الخالص من الماء حلوا كان أو حامضا.
قوله: ذهب ذلك السوء عنهم، أي صار القبح كالشطر الحسن، فلذلك قال: وصاروا في أحسن صورة.
قوله: فيرفضه) بكسر الفاء ويقال بضمها، قال ابن هبيرة: رفضالقرآن بعد حفظه جناية عظيمة، لأنه يوهم أنه رأى فيه ما يوجب رفضه، فلما رفض أشرف الأشياء وهو القرآن، عوقب في أشرف أعضائه وهو الرأس.
قوله: (وينام عن الصلاة المكتوبة، هذا أوضح من رواية جرير بن حازم بلفظ: (وعلمه الله القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل فيه بالنهار).
فإن ظاهره أنه يعذب على ترك قراءة القرآن بالليل، بخلاف رواية عوف فإنه على تركه الصلاة المكتوبة، ويحتمل أن يكون التعذيب على مجموع الأمرين، ترك القراءة وترك العمل.
قوله: (فهم الزناة) مناسبة العرى لهم لاستحقاقهم أن يفضحوا لأن عادتهم أن يستتروا في الخلوة، فعوقبوا بالهتك، والحكمة في إتيان العذاب من تحتهم كون جنابتهم من أعضائهم السفلى.
قوله: (فإنه آكل الربا). قال ابن هبيرة: إنما عوقب آكل الربا بسباحته في النهر الأحمر وإلقامه الحجارة، لأن أصل الربا يجري في الذهب، والذهب أحمر، وأما إلقام الملك الحجر، فإنه إشارة إلى أنه لا يغني عنه شيئا، وكذلك الربا، فإن صاحبه يتخيل أن ماله يزداد، والله من ورائه محقه.
قوله: (خازن جهنم) إنما كان كريه الرؤية، لأن في ذلك زيادة في عذاب أهل النار.
قوله: (وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم) وإنما اختص إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأنه أبو المسلمين، قال تعالى: (ملة أبيكم إبراهيم) [الحج: ٧٨]، وقال تعالى: (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه) [آل عمران: ٦٨] قوله: (وأما القوم الذين كانوا شطرا منهم حسن وشطرا منهم قبيح)، كذا في الموضعين بنصب الشطر... ولغير أبي ذر (شطر) في الموضعين بالرفع، و (حسنا) و ((قبيحا) بالنصب، ولكل وجه.
وفي حديث أبي أمامة: (ثم انطلقنا، فإذا نحن برجال ونساء أقبح شئ منظرا وأنتنه ريحا كأنما ريحهم المراحيض، قلت: ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء الزواني والزناة، ثم انطلقنا، فإذا نحن بموتى أشد شيئا انتفاخا وأنتنه ريحا، قلت: ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء موتى الكفار، ثم انطلقناه فإذا نحن برجال نيام تحت ظلال الشجر، قلت: ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء موتى المسلمين، ثم انطلقنا، فإذا نحن برجال أحسن شئ وجها وأطيبه ريحا، قلت: ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء هم الصديقون والشهداء والصالحون).
وفي هذا الحديث من الفوائد: أن الإسراء وقع مرارا، يقظة ومناما، على أنحاء شتى، وفيه أن العصاة يعذبون في البرزخ.
وفيه نوع من تلخيص العلم، وهو أن يجمع القضايا جملة، ثم يفسرها على الولاء، ليجتمع قصورها في الذهن، والتحذير من النوم عن الصلاة المكتوبة، وعن رفضالقرآن لمن يحفظه، وعن الزنا، وأكل الربا، وتعمد الكذب، وأن الذي له قصر في الجنة لا يقيم فيه وهو في الدنيا بل إذا مات، حتى النبي والشهيد.
وفيه الحث على طلب العلم، واتباع من يلتمس منه ذلك، وفيه فضل الشهداء، وأن منازلهم في الجنة أرفع المنازل، ولا يلزم من ذلك أن يكونوا أرفع درجة من إبراهيم عليه السلام، لاحتمال أن إقامته هناك بسبب كفالته الولدان، ومنزله هو في المنزلة التي هي أعلى من منازل الشهداء، كما تقدم في الإسراء، أنه رأى آدم في السماء الدنيا، وإنما كان كذلك لكونه يرى نسم بنيه من أهل الخير ومن أهل الشر، فيضحك ويبكي، مع أن منزلته هو في عليين، فإذا كان يوم القيامة استقر كل منهم في منزلته.
وفيه أن الاهتمام بأمر الرؤيا بالسؤال عنها، وفضل تعبيرها، واستحباب ذلك بعد صلاة الصبح، لأنه الوقت الذي يكون فيه البال مجتمعا.
وفيه استقبال الإمام أصحابه بعد الصلاة إذا لم يكن بعدها راتبة، وأراد أن يعظهم أو يفتيهم، أو يحكم بينهم.
وفيه أن ترك استقبال القبلة للإقبال عليهم لا يكره، بل يشرع كالخطيب.
قال الكرماني: مناسبة العقوبات المذكورة فيه للجنايات ظاهرة إلا الزنا ففيها خفاء، وبيانه أن العرى فضيحة كالزنا، والزاني من شأنه طلب الخلوة فناسب التنور، ثم خائف حذر حال الفعل كأن تحته نار.
وقال أيضا: الحكمة في الاقتصار على من ذكر من العصاة دون غيرهم أن العقوبة تتعلق بالقول أو الفعل، فالأول: على وجود ما لا ينبغي منه أن يقال. والثاني: إما بدني أو مالي، فذكر لكل منهم مثال ينبه به على من عداه، كما نبه بمن ذكر من أهل الثواب، وأنهم أربع درجات: درجات النبي، ودرجات الأمة أعلاها الشهداء، وثانيها من بلغ، وثالثها من كان دون البلوغ (فتح الباري) مختصرا.