إمتاع الأسماع - المقريزي - ج ٨ - الصفحة ٢٤
اجتناب المجذوم (1) خرج البخاري من حديث عفان قال: [حدثني سليم بن حيان]، حدثني سعيد بن ميناء [قال:] سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر، وفر من المجذوم كما تفر من الأسد (2).

(١) الجذام - بضم الجيم وتخفيف المعجمة -: هو علة رديئة، تحدث من انتشار المرة السوداء في البدن كله، فتفسد مزاج الأعضاء، وربما أفسد في آخره إيصالها حتى يتآكل. قال ابن سيده: سمي بذلك لتجذم الأصابع وتقطعها.
(٢) (فتح الباري): ١٠ / ١٩٥، كتاب الطب، باب (١٩) الجذام، حديث رقم (٥٧٠٧)، و (عفان) هو ابن مسلم الصفار، وهو من شيوخ البخاري، لكن أكثر ما يخرج عنه بواسطة، وهو من المعلقات التي لم يصلها في موضع آخر، وقد جزم أبو نعيم أنه أخرجه عنه بلا رواية، وعلى طريقة ابن الصلاح يكون موصولا، وقد وصله أبو نعيم من طريق أبي داود الطيالسي، وأبي قتيبة مسلم بن قتيبة، كلاهما عن سليم بن حبان، شيخ عفان فيه.
وأخرجه أيضا من طريق عمرو بن مرزوق، عن سليم، لكن موقوفا، ولم يستخرجه الإسماعيلي، وقد وصله ابن خزيمة أيضا.
قوله: (وفر من المجذوم كما تفر من الأسد)، لم أقف عليه من حديث أبي هريرة إلا من هذا الوجه، ومن وجه آخر عند أبي نعيم في الطب، لكنه معلول. وأخرج ابن خزيمة في (كتاب التوكل) له شاهد من حديث عائشة، ولفظه: (لا عدوى، وإذا رأيت المجذوم ففر منه كما تفر من الأسد).
وأخرج مسلم من حديث عمرو بن الشريد الثقفي عن أبيه، قال: (كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا قد بايعناك فارجع)، حديث رقم (٢٢٣١).
قال عياض: اختلفت الآثار في المجذوم، فجاء ما تقدم عن جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل مع مجذوم وقال: ثقة بالله وتوكلا عليه).
قال: فذهب عمر رضي الله عنه وجماعة من السلف إلى الأكل معه، ورأوا أن الأمر باجتنابه منسوخ. وممن قال بذلك: عيسى بن دينار من المالكية، قال: والصحيح الذي عليه الأكثر، ويتعين المصير إليه أن لا نسخ، بل يجب الجمع بين الحديثين، وحمل الأمر باجتنابه والفرار منه على الاستحباب والاحتياط، والأكل معه على بيان الجواز.
هكذا اقتصر القاضي ومن تبعه على حكاية هذين القولين، وحكى غيره قولا ثالثا وهو الترجيح، وقد سلكه فريقان:
أحدهما: سلك ترجيح الأخبار الدالة على نفي العدوى وتزييف الأخبار الدالة على عكس ذلك، مثل حديث الباب، فأعلوه بالشذوذ وبأن عائشة أنكرت ذلك، فأخرج الطبري عنها (أن امرأة سألتها عنه فقالت: ما قال ذلك، ولكنه قال: لا عدوى، وقال: فمن أعدى الأول؟ قالت: وكان لي مولى به هذا الداء، فكان يأكل في صحافي، ويشرب في أقداحي، وينام على فراشي)، وبأن أبا هريرة تردد في هذا الحكم كما سيأتي بيانه، فيؤخذ الحكم من رواية غيره، وبأن الأخبار الواردة من رواية غيره في نفي العدوى كثيرة شهيرة، بخلاف الأخبار المرخصة في ذلك، ومثل حديث (لا تديموا النظر إلى المجذومين)، وقد أخرجه ابن ماجة وسنده ضعيف، ومثل حديث عبد الله بن أبي أوفى رفعه: (كلم المجذوم وبينك وبينه قيد رمحين)، أخرجه أبو نعيم في الطب، وسنده واه، ومثل ما أخرجه الطبري من طريق معمر عن الزهري: (أن عمر رضي الله عنه قالك لمعيقيب: اجلس مني قيد رمح)، ومن طريق خارجة بن زيد، كان عمر رضي الله عنه يقول نحوه، وهما أثران منقطعان، وأما حديث الشريد الذي أخرجه مسلم فليس صريحا في أن ذلك بسبب الجذام، والجواب عن ذلك: أن طريق الترجيح لا يصر إليها إلا مع تعذر الجمع، وهو ممكن، فهو أولى.
الفريق الثاني: سلكوا في الترجيح عكس ذلك المسلك، فردوا حديث لا عدوى بأن أبا هريرة رجع عنه، إما لشكه فيه، وإما لثبوت عكسه عنده، قالوا: والأخبار الدالة على الاجتناب أكثر مخارج، وأكثر طرقا، فالمصير إليها أولى. قالوا: وأما حديث جابر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم فوضعها في القصعة وقال: كل ثقة بالله وتوكلا عليه) ففيه نظر، وقد أخرجه الترمذي، وبين الاختلاف فيه على راويه، ورجع وقفه على عمر رضي الله عنه، وعلى تقدير ثبوته فليس فيه أنه صلى الله عليه وسلم أكل معه، وإنما فيه أنه وضع يده في القصعة، والجواب أن طريق الجمع أولى كما تقدم، وأيضا فحديث لا عدوى ثبت من غير طريق أبي هريرة فصح عن عائشة، وابن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وجابر، وغيرهم، فلا معنى لكونه معلولا، والله أعلم.
وفي طريق الجمع مسالك أخر:
أحدها: نفي العدوى جملة وحمل الأمر بالفرار من المجذوم على رعاية خاطر المجذوم، لأنه إذا رأى الصحيح البدن، السليم من الآفة، تعظم مصيبته، وتزداد حسرته، ونحوه حديث: (لا تديموا النظر إلى المجذومين)، فإنه محمول على هذا المعنى.
ثانيها: حمل الخطاب بالنفي والإثبات على حالتين مختلفتين، فحيث جاء (لا عدوى) كان المخاطب بذلك من قوى يقينه وصح توكله، بحيث يستطيع أن يدفع عن نفسه اعتقاد العدوى، كما يستطيع أن يدفع التطير الذي يقع في نفس كل أحد، لكن القوي اليقين لا يتأثر به، وعلى هذا يحمل حديث جابر في أكل المجذوم من القصعة.
ثالثها: قال القاضي أبو بكر الباقلاني: إثبات العدوى في الجذام ونحوه مخصوص من عموم نفي العدوى، قال: فيكون معنى قوله: (لا عدوى) أي إلا من الجذام والبرص والجرب مثلا، قال: فكأنه قال: لا يعدي شئ شيئا إلا ما تقدم تبييني له أن فيه العدوى، وقد حكمي ذلك ابن بطال.
رابعها: أن الأمر بالفرار من المجذوم ليس من باب العدوى في شئ، بل هو لأمر طبيعي، وهو انتقال الداء من جسد لجسد، بواسطة الملامسة، والمخالطة وشم الرائحة، ولذلك يقع في كثير من الأمراض في العادة انتقال الداء من المريض إلى الصحيح بكثرة المخالطة، وهذه طريقة ابن قتيبة فقال: المجذوم تشتد رائحته حتى يسقم من أطال مجالسته، ومحادثته، ومضاجعته، وكذا يقع كثيرا بالمرأة من الرجل وعكسه، وينزع الولد إليه، ولهذا يأمر الأطباء يترك مخالطة المجذوم، لا على طريق العدوى، بل على طريق التأثر بالرائحة، لأنها تسقم من واظب اشتمامها، قال: ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يورد ممرض على مصح)، لأن الجرب الرطب قد يكون بالبعير، فإذا خالط الإبل أو حككها وأوى إلى مباركها، وصل إليها بالماء الذي يسيل منه، وكذا بالنظر نحو ما به. قال: وأما قوله: (لا عدوى) فله معنى آخر، وهو أن يقع المرض بمكان كالطاعون فيفر منه مخافة أن يصيبه، لأن فيه نوعا من الفرار من قدر الله.
خامسها: أن المراد بنفي العدوى أن شيئا لا يعدي بطبعه، نفيا لما كانت الجاهلية تعتقده أن الأمراض تعدي بطبعها، من غير إضافة إلى الله تعالى، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم اعتقادهم ذلك، وأكل مع المجذوم ليبين لهم أن الله هو الذي يمرض ويشفي، ونهاهم عن الدنو منه ليبين لهم أن هذا من الأسباب التي أجرى الله تعالى العادة بأنها تفضي إلى مسبباتها، ففي نهيه إثبات الأسباب، وفي فعله إشارة إلى أنها لا تستقل، بل الله هو الذي إن شاء سلبها قواها، فلا تؤثر شيئا، وإن شاء أبقاها فأثرت.
قال البيهقي - بعد أن أورد قول الشافعي رضي الله عنه ما نصه -: الجذام والبرص يزعم أهل العلم بالطب والتجارب أنه يعدي الزوج كثيرا، وهو داء مانع للجماع، لا تكاد نفس أحد تطيب بمجامعة من هو به، ولا نفس امرأة أن يجامعها من هو به، وأما الولد فبين أنه إذا كان من ولده أجذم أو أبرص، أنه قلما يسلم، وإن سلم أدرك نسله.
سادسها: العمل بنفي العدوى أصلا ورأسا، وحمل الأمر بالمجانبة على حسم المادة وسد الذريعة، لئلا يحدث للمخالط بشئ من ذلك، فيظن أنه بسبب المخالطة، فيثبت العدوى التي نفاها الشارع، وإلى هذا القول ذهب أبو عبيد وتبعه جماعة، فقال أبو عبيد: ليس في قوله: (لا يورد ممرض على مصح) إثبات العدوى، بل لأن الصحاح لو مرضت بتقدير الله تعالى ربما وقع في نفس صاحبها أن ذلك من العدوى، فيفتتن ويتشكك في ذلك، فأمر باجتنابه. قال: وكان بعض الناس يذهب إلى أن الأمر بالاجتناب إنما هو للمخافة على الصحيح من ذوات العاهة، قال: وهذا شر ما حمل عليه الحديث، لأن فيه إثبات العدوى التي نفاها الشرع، ولكن وجه الحديث عندي ما ذكرته.
قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: الأمر بالفرار من الأسد ليس للوجوب، بل للشفقة، لأنه صلى الله عليه وسلم كان ينهى أمته عن كل ما فيه ضرر بأي وجه كان، ويدلهم على كل ما فيه خير.
قال: ويمكن الجمع بين فعله وقوله بأن القول هو المشروع من أجل ضعف المخاطبين، وفعله حقيقة الإيمان، فمن فعل الأول أصاب السنة وهي أثر الحكمة، ومن فعل الثاني كان أقوى يقينا، لأن الأشياء كلها لا تأثير لها إلا بمقتضى إرادة الله تعالى وتقديره، كما قال تعالى: (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله)، فمن كان قوي اليقين فله أن يتابعه صلى الله عليه وسلم في فعله ولا يضره شئ، ومن وجد في نفسه ضعفا فليتبع أمره في الفرار، لئلا يدخل بفعله في إلقاء نفسه إلى التهلكة.
واستدل بالأمر بالفرار من المجذوم لإثبات الخيار للزوجين في فسخ النكاح، إذا وجده أحدهما بالآخر، وهو قول جمهور العلماء، واختلف في أمة الأجذم: هل يجوز لها أن تمنع نفسها من استمتاعه إذا أرادها؟ واختلف العلماء في المجذومين إذا كثروا، هل يمنعون من المساجد والمجامع؟ وهل يتخذ لهم مكان منفرد عن الأصحاء؟ ولم يختلفوا في النادر أنه لا يمنع، ولا في شهود الجمعة (فتح الباري): 10 / 196 - 200 مختصرا.
(٢٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 19 20 21 22 23 24 27 28 29 30 31 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 ليس فيما حرم شفاء 3
2 السعوط 4
3 ذات لجنب 6
4 الكحل 9
5 الحبة السوداء 12
6 السنا 14
7 التلبينة والحساء 16
8 اغتسال المريض 19
9 اجتناب المجذوم 24
10 وأما عرق النسا 31
11 وأما كثرة أمراضه صلى الله عليه وسلم 34
12 الحناء 35
13 الذريرة 38
14 وأما أنه صلى الله عليه وسلم سحر 40
15 وأما أنه صلى الله عليه وسلم سم 45
16 وأما أنه صلى الله عليه وسلم رقى 48
17 وأما أنه صلى الله عليه وسلم احتجم 56
18 وأما الكي والسعوط 62
19 وأما الحناء 64
20 وأما السفرجل 64
21 فصل في ذكر حركات رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكونه 66
22 وأما عمله صلى الله عليه وسلم في بيته 66
23 وأما ما يقوله إذا دخل بيته صلى الله عليه وسلم 67
24 وأما ما يقوله إذا خرج من بيته صلى الله عليه وسلم 68
25 وأما مشيه صلى الله عليه وسلم 72
26 وأما نومه صلى الله عليه وسلم 80
27 وأما ما يقوله صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ 89
28 وأما أن قلبه صلى الله عليه وسلم لا ينام 90
29 وأما مناماته عليه السلام 92
30 فصل في ذكر صديق رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل النبوة 139
31 ذكر أنه صلى الله عليه وسلم كان يحسن العوم في الماء صلى الله عليه وسلم 143
32 ذكر شريك رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعث 145
33 فصل في ذكر سفره صلى الله عليه وسلم 150
34 أما يوم سفره صلى الله عليه وسلم 150
35 وأما ما يقوله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسافرا 153
36 وأما ما يقوله صلى الله عليه وسلم إذا علا على شئ 158
37 وأما كيف سيره صلى الله عليه وسلم 161
38 وأما ما يقوله صلى الله عليه وسلم ويعمله إذا نزل منزلا 163
39 وأما ما يقوله صلى الله عليه وسلم في السحر 164
40 ذكر ما يقوله صلى الله عليه وسلم إذا رأى قرية 165
41 ذكر تنفله صلى الله عليه وسلم على الراحلة 166
42 وأما ما يقول إذا رجع من سفره صلى الله عليه وسلم 167
43 وأما ما يصنع إذا قدم من سفر صلى الله عليه وسلم 169
44 وأما كونه لا يطرق أهله ليلا 171
45 فصل في الأماكن التي حلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهى الرحلة النبوية 174
46 وأما سفره صلى الله عليه وسلم مع عمه 174
47 وأما سفره صلى الله عليه وسلم في تجارة خديجة رضى الله تعالى عنها 186
48 وأما الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إلى السماوات العلى ورؤيته الآيات ربه الكبرى 190
49 فصل جامع في ذكر حديث الإسراء والمعراج 214
50 فأما رواية حديث الإسراء عن النبي صلى الله عليه وسلم 214
51 فصل جامع في معراج النبي صلى الله عليه وسلم 283
52 فصل في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لله عز وجل ليلة الإسراء 302
53 فصل في سفر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف 305
54 فصل في ذكر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عكاظ، ومجنة وذى المجاز 309
55 فصل في ذكر هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة 316
56 فصل في ذكر غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم 330
57 غزوة الأبواء 332
58 غزوة بواط 334
59 غزوة بدر الأولى 336
60 غزوة ذي العشيرة 337
61 غزوة بدر الكبرى 339
62 غزوة بني قينقاع 346
63 غزوة السويق 348
64 غزوة قراره الكدر 350
65 غزوة ذي أمر، وهي غزوة غطفان 352
66 غزوة نجران 354
67 غزوة أحد 355
68 غزوة حمراء الأسد 357
69 غزوة بني النضير 359
70 غزوة بدر الموعد 362
71 غزوة ذات الرقاع 363
72 غزوة دومة الجندل 367
73 غزوة المريسيع 369
74 غزوة الخندق 372
75 غزوة بني قريظة 376
76 غزوة بني لحيان 379
77 غزوة الغابة 380
78 غزوة خيبر 382
79 عزوة الفتح 384
80 غزوة حنين 388
81 غزوة تبوك 391