المخاضة من الناحية الأخرى - ليجوز الناس إليهم آمنين، فانتدب عاصم بن عمرو وذو البأس من الناس قريب من ستمائة، فأمر سعد عليهم عاصم بن عمرو فوقفوا على حافة دجلة فقال عاصم:
من ينتدب معي لنكون قبل الناس دخولا في هذا البحر فنحمي الفراض من الجانب الآخر؟
فانتدب له ستون من الشجعان المذكورين - والأعاجم وقوف صفوفا من الجانب الآخر - فتقدم رجل من المسلمين وقد أحجم الناس عن الخوض في دجلة، فقال: أتخافون من هذه النطفة؟ ثم تلا قوله تعالى * (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا) * [آل عمران: 145] ثم أقحم فرسه فيها واقتحم الناس، وقد افترق الستون فرقتين أصحاب الخيل الذكور، وأصحاب الخيل الإناث. فلما رآهم الفرس يطفون على وجه الماء قالوا: ديوانا ديوانا. يقولون مجانين مجانين. ثم قالوا: والله ما تقاتلون إنسا بل تقاتلون جنا. ثم أرسلوا فرسانا منهم في الماء يلتقون أول المسلمين ليمنعوهم من الخروج من الماء، فأمر عاصم بن عمرو أصحابه أن يشرعوا لهم الرياح ويتوخوا الأعين، ففعلوا ذلك بالفرس فقلعوا عيون خيولهم، فرجعوا أمام المسلمين لا يملكون كف خيولهم حتى خرجوا من الماء، واتبعهم عاصم وأصحابه فساقوا وراءهم حتى طردوهم عن الجانب الآخر، ووقفوا على حافة الدجلة من الجانب الآخر ونزل بقية أصحاب عاصم من الستمائة في دجلة فخاضوها حتى وصلوا إلى أصحابهم من الجانب الآخر فقاتلوا مع أصحابهم حتى نفوا الفرس عن ذلك الجانب وكانوا يسمون الكتيبة الأولى كتيبة الأهوال، وأميرها عاصم بن عمرو، والكتيبة الثانية الكتيبة الخرساء وأميرها القعقاع بن عمرو. وهذا كله وسعد والمسلمون ينظرون إلى ما يصنع هؤلاء الفرسان بالفرس، وسعد واقف على شاطئ دجلة. ثم نزل سعد ببقية الجيش، وذلك حين نظروا إلى الجانب الآخر قد تحصن بمن حصل فيه من الفرسان المسلمين، وقد أمر سعد المسلمين عند دخول الماء أن يقولوا: نستعين بالله ونتوكل عليه، حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثم اقتحم بفرسه دجلة واقتحم الناس لم يتخلف عنه أحد، فساروا فيها كأنما يسيرون على وجه الأرض حتى ملؤا ما بين الجانبين، فلا يرى وجه الماء من الفرسان والرجالة، وجعل الناس يتحدثون على وجه الماء كما يتحدثون على وجه الأرض، وذلك لما حصل لهم من الطمأنينة والامن، والوثوق بأمر الله ووعده ونصره وتأييده، ولأن أميرهم سعد ابن أبي وقاص أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنه راض، ودعا له. فقال " اللهم أجب دعوته، وسدد رميته " والمقطوع به أن سعدا دعا لجيشه هذا في هذا اليوم بالسلامة والنصر، وقد رمى بهم في هذا اليم فسددهم الله وسلمهم، فلم يفقد من المسلمين رجل واحد غير أن رجلا واحدا يقال له غرقدة البارقي، زل (1) عن فرس له شقراء، فأخذ القعقاع بن عمرو بلجاماه، وأخذ بيد الرجل حتى عدله على فرسه، وكان من الشجعان، فقال: عجز النساء أن يلدن مثل القعقاع بن عمرو. ولم يعدم للمسلمين شئ من أمتعتهم غير قدح من خشب