والمختار إنما هو الجواز، ويدل على ذلك الاجمال والتفصيل:
أما الاجمال: فهو أنه لا خلاف بين العقلاء أنه يحسن من الشارع أن ينص ويقول:
لا يقضي القاضي وهو غضبان، لان الغضب مم يوجب اضطراب رأيه وفهمه، فقيسوا على الغضب ما كان في معناه، كالجوع والعطش والاعياء المفرط، وأن يقول: حرمت عليكم شرب الخمر، ومهما غلب على ظنونكم أن علة التحريم الشدة المطربة الصادة عن ذكر الله المفضية إلى وقوع الفتن والعداوة والبغضاء لتغطيتها على العقل، فقيسوا عليها كل ما في معناه من النبيذ وغيره، ولو كان ذلك ممتنعا عقلا لما حسن ورود الشرع بذلك.
وأما من جهة التفصيل: فمن وجهين الأول: هو أن العاقل إذا صح نظره واستدلاله، أدرك بالامارات الحاضرة المدلولات الغائبة، وذلك كمن رأى جدارا مائلا منشقا، فإنه يحكم بهبوطه، أو رأى غيما رطبا وهواء باردا، حكم بنزول المطر، أو رأى إنسانا خارجا من بيت فيه قتيل، وبيده سكين مخضبة بالدم، حكم بكونه قاتلا، فإذا رأى الشارع قد أثبت حكما في صورة من الصور، ورأى ثم معنى يصلح أن يكون داعيا إلى إثبات ذلك الحكم، ولم يظهر له ما يبطله بعد البحث التام، والسبر الكامل، فإنه يغلب على ظنه أن الحكم ثبت له، وإذا وجد ذلك الوصف في صورة أخرى غير الصورة المنصوص عليها، ولم يظهر له أيضا ما يعارضه، فإنه يغلب على ظنه ثبوت الحكم به في حقنا، وقد علمنا أن مخالفة حكم الله تعالى سبب للعقاب، فالعقل يرجح فعل ما ظن فيه المصلحة ودفع المضرة على تركه، ولا معنى للجواز العقلي سوى ذلك.
الثاني: أن التعبد بالقياس فيه مصلحة لا تحصل دونه، وهي ثواب المجتهد على اجتهاده وإعمال فكره وبحثه في استخراج علة الحكم المنصوص عليه لتعديته إلى محل آخر، على ما قال، عليه السلام: ثوابك على قدر نصبك وما كان طريقا إلى تحصيل مصلحة المكلف، فالعقل لا يحيله بل يجوزه.