بالآخر، فحدث كل واحد منهما مفترقا عن صاحبه بحديث طويل لا يمكن أن يتفق خاطر اثنين على توليد مثله، وذكر كل واحد منهما مشاهدة أو لقاء لجماعة شاهدت أو أخبرت عن مثلها بأنها شاهدت، فهو خبر صدق يضطر بلا شك من سمعه إلى تصديقه ويقطع على غيبه.
وهذا الذي قلنا يعلمه حسا من تدبره ورعاه فيما يرده كل يوم من أخبار زمانه من موت أو ولادة أو نكاح أو عزل أو ولاية أو وقعة وغير ذلك، وإنما خفي ما ذكرنا على من خفي عليه لقلة مراعاته يمر به، ولو أنك تكلف إنسانا واحدا اختراع حديث طويل كاذب لقدر عليه، يعلم ذلك بضرورة المشاهدة، فلو أدخلت اثنين في بيتين لا يلتقيان، وكلفت كل واحد منهما توليد حديث كاذب لما جاز بوجه من الوجوه أن يتفقا فيه من أوله إلى آخره.
هذا ما لا سبيل إليه بوجه من الوجوه أصلا، وقد يقع في الندرة التي لم نكد نشاهدها اتفاق الخواطر على الكلمات اليسيرة، والكلمتين نحو ذلك. والذي شاهدنا اتفاق شاعرين في نصف بيت، شاهدنا ذلك مرتين من عمرنا فقط.
وأخبرني من لا أثق به: أن خاطره وافق خاطر شاعر آخر في بيت كامل واحد، ولست أعلم ذلك صحيحا. وأما الذي لا أشك فيه وهو ممتنع في العقل، فاتفاقهما في قصيدة بل في بيتين فصاعدا. والشعر نوع من أنواع الكلام، ولكل كلام تأليف ما، والذي ذكره المتكلمون في الاشعار من الفصل الذي سموه المواردة، وذكروا أن خواطر شعراء اتفقت في عدة أبيات، فأحاديث مفتعلة لا تصح أصلا ولا تتصل. وما هي إلا سراقات وغارات من بعض الشعراء على بعض.
قال علي: وقد يضطر خبر الواحد إلى العلم بصحته إلا أن اضطراره ليس بمطرد، ولا في وقت ولكن على قدر ما يتهيأ. وقد بينا ذلك في كتاب الفضل.
قال علي: فهذا قسم.
قال علي: القسم الثاني من الاخبار ما نقله الواحد عن الواحد، فهذا إذا اتصل برواية العدول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب العمل به، ووجب العلم بصحته أيضا، وبين هذا وبين شهادة العدول فرق نذكره إن شاء الله تعالى، وهو قول الحارث بن أسد المحاسبي، والحسين بن علي الكرابيسي. وقد قال به أبو سليمان، وذكره ابن خويز