أمرنا نبيه صلى الله عليه وسلم، مما نقله عنه الثقات، أو جاء عنه بتواتر أجمع عليه جميع علماء المسلمين على نقله عنه عليه السلام، فوجدناه تعالى قد ساوى بين هذه الجمل الثلاث في وجوب طاعتها علينا، فنظرنا فيها فوجدنا منها جملا إذا اجتمعت قام منها حكم منصوص على معناه، فكان ذلك كأنه وجه رابع، إلا أنه غير خارج عن الأصول الثلاثة التي ذكرنا وذلك نحو قوله عليه السلام:
كل مسكر خمر، وكل خمر حرام فأنتج ذلك كل مسكر حرام فهذا منصوص على معناه نصا جليا ضروريا. لان المسكر هو الخمر، والخمر هي المسكر، والخمر حرام، فالمسكر الذي هو هي حرام.
ومثل قوله تعالى وورثه أبواه فلأمه الثلث وقد تيقنا بالفعل الذي به علمنا الأشياء على ما هي عليه أن كل معدود فهو ثلث وثلثان، فإذا كان للأم الثلث فقط وهي والأب وارثان فقط فالثلثان للأب، وهذا علم ضروري لا محيد عنه للعقل، ووجدنا ذلك منصوصا على المعنى وإن لم ينص على اللفظ.
ومثل إجماع المسلمين على أن الله تعالى حكم بأن دم زيد حرام لاسلامه ثم قال قائل: قد حل دمه فقلنا: قد تيقنا بالنص وجوب الطاعة للاجماع، وقد صح نقل الاجماع على أن دمه حرام، فلا يجوز لنا خلاف ذلك إلا بنص منقول بالثقات أو بتواتر أو بإجماع ناقل لنا. فهذا منصوص على معناه.
ومثل أن يدعي زيد على عمرو بمال فنقول: إن الله تعالى نص على إيجاب اليمين على عمرو، لان النص قد جاء بإيجاب اليمين على من ادعي عليه، وعمرو مدعى عليه فقد أوجب النص اليمين على عمرو، فلا سبيل إلى معرفة شئ من أحكام الديانة أصلا إلا من أحد هذه الوجوه الأربعة، وهي كلها راجعة إلى النص، والنص معلوم وجوبه، ومفهوم معناه بالعقل على التدريج الذي ذكرناه وقد ادعى قوم: أن من الشرائع ما لا سبيل في القدرة إلى تغييره، فأتوا بأمر عظيم، وأدى قولهم هذا الفاسد إلى أن ربهم تعالى مضطر إلى الامر بما أمر من ذلك: فمن التزم منهم ما توجبه مقدمته الفاسدة كفر، ومن جبن عن التزامه تناقض وقضى بفساد معتقده الذي هو ثابت عليه، إلا أنهم استعظموا أن يطلقوا ما يوجبه مذهبهم فحسنوه بعبارة كنوا بها عنه فقالوا: لا سبيل في العقل إلى تغييره.