من الأعضاء ثم ظهرت بعد ذلك شيئا فشيئا وكان مقتضى الترتيب السابق المبنى على التدرج من المبادئ البعيدة إلى القريبة أن يقدم غير المخلقة على المخلقة وإنما أخرت عنها لأنها عدم الملكة هذا وقد فسرتا بالمسواة وغير المسواة وبالتامة والساقطة وليس بذاك وفي جعل كل واحدة من هذه المراتب مبدأ لخلقهم لا لخلق ما بعدها من المراتب كما في قوله تعالى ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة الآية مزيد دلالة على عظيم قدرته تعالى وكسر لسورة استبعادهم «لنبين لكم» متعلق بخلقنا وترك المفعول لتفخيمه كما وكيفا أي خلقناكم على هذا النمط البديع لنبين لكم بذلك مالا تحصره العبارة من الحقائق والدقائق التي من جملتها سر البعث فإن من تأمل فيما ذكر من الخلق التدريجي تأملا حقيقيا جزم جزما ضروريا بان على خلق البشر أو لا من تراب لم يشم رائحة الحياة قط وإنشائه على وجه مصحح لتوليد مثله مرة بعد أخرى بتصريفه في أطوار الخلقة وتحويله من حال إلى حال مع ما بين تلك الأطوار والأحوال من المخالفة والتباين فهو قادر على إعادته بل هو أهو في القياس نظرا إلى الفاعل والقابل وقرئ ليبين بطريق الالتفات وقوله تعالى «ونقر في الأرحام ما نشاء» استئناف مسوق لبيان حالهم بعد تمام خلقهم وعدم نظم هذا وما عطف عليه في سلك الخلق المعلل بالتبين مع كونهما من متمماته ومن مبادى التبيين أيضا لما ان دلالة الأول على كمال قدرته تعالى على جميع المقدورات التي من جملتها البعث المبحوث عنه أجلى وأظهر أي ونحن نقر في الأرحام بعد ذلك ما نشاء ان نقره فيها «إلى أجل مسمى» هو وقت الوضع وأدناه ستة أشهر وأقصاه سنتان وقيل أربع سنين وفيه إشارة إلى أن بعض ما في الأرحام لا يشاء الله تعالى إقراره فيها بعد تكامل خلقه فتسقطه والتعرض للإزلاق لا يناسب المقام لأن الكلام فيما جرى عليه أطوار الخلق وهذا صريح في ان المراد بغير المخلقة ليس من ولد ناقصا أو معيبا وأن ما فصل إلى هنا هو الأطوار المتواردة على المولود قبل الولادة وقرئ يقر بالياء ونقر ويقر بضم القاف من قررت الماء إذا صببته «ثم نخرجكم» أي من بطون أمهاتكم بعد إقراركم فيها عند تمام الأجل المسمى «طفلا» اي حال كونكم أطفالا والإفراد باعتبار كل واحد منهم أو بإرادة الجنس المنتظم للواحد والمتعدد وقرئ يخرجكم بالياء وقوله تعالى «ثم لتبلغوا أشدكم» علة لنجرجكم معطوفة على علة أخرى له مناسبة لها كأنه قيل ثم نخرجكم لتكبروا شيئا فشيئا ثم لتبلغوا كمالكم في القوة والعقل والتمييز وقيل التقدير ثم نمهلكم لتبلغوا الخ وما قيل إنه معطوف على نبين مخل بجزالة النظم الكريم هذا وقد قرىء مما قبله من الفعلين بالنصب حكاية وغيبة فهو حينئذ عطف على نبين مثلهما والمعنى خلقناكم على التدريج المذكور لغايتين مترتبتين عليه إحداهما ان نبين شئوننا والثانية أن نقركم في الأرحام ثم نخرجكم صغارا ثم لتبلغوا أشدكم وتقديم التبيين على ما بعده مع ان حصوله بالفعل بعد الكل للإيذان بأنه غاية الغايات ومقصود بالذات وإعادة اللام ههنا مع تجريد الأولين عنها للإشعار بأصالته في الغرضية بالنسبة إليهما إذ عليه يدور التكليف المؤدى إلى السعادة والشقاوة وإيثار البلوغ مسندا إلى المخاطبين على التبليغ مسندا إليه تعالى كالأفعال السابقة لأنه المناسب لبيان حال اتصافهم بالكمال واستقلالهم بمبدئية الآثار والأفعال والأشد من ألفاظ الجموع التي لم يستعمل لها واحد كالأسد والقتود وكأنها حين كانت شدة في غير شيء بنيت على لفظ الجمع «ومنكم من يتوفى» أي بعد بلوغ الأشد أو قبله
(٩٤)