«لقد أنزلنا إليكم» كلام مستأنف مسوق لتحقيق حقية القرآن العظيم الذي ذكر في صدر السورة الكريمة إعراض الناس عما يأتيهم من آياته واستهزاؤهم به وتسميتهم تارة سحرا أو تارة أضغاث أحلام وأخرى مفترى وشعرا وبيان علو رتبته إثر تحقيق رسالته صلى الله عليه وسلم ببيان أنه كسائر الرسل الكرام عليهم الصلاة والسالم قد صدر بالتوكيد القسمي إظهارا لمزيد الاعتناء بمضمونه وإيذانا يكون المخاطبين في أقصى مراتب النكير أي والله لقد أنزلنا إليكم يا معشر قريش «كتابا» عظيم الشأن نير البرهان وقوله تعالى «فيه ذكركم» صفة لكتابا مؤكدة لما أفاده التنكير التفخيمي من كونه جليل المقدار بأنه جميل الآثار مستجلب لهم منافع جليلة أي فيه شرفكم وصيتكم كقوله تعالى وإنه لذكر لك ولقومك وقيل ما تحتاجون إليه في أمور دينكم ودنياكم وقيل ما تطلبون به حسن الذكر من مكارم الأخلاف وقيل فيه موعظتكم وهو الأنسب بسباق النظم الكريم وسياقه فإن قوله تعالى «أفلا تعقلون» إنكار توبيخي فيه بعث لهم على التدبر في أمر الكتاب والتأمل فيما في تضاعيفه من فنون المواعظ والزواجر التي من جملتها القوارع السابقة واللاحقة والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي ألا تتفكرون فلا تعقلون ان الأمر كذلك أولا تعقلون شيئا من الأشياء التي من جملتها ما ذكر وقوله تعالى «وكم قصمنا من قرية» نوع تفصيل لإجمال قوله تعالى وأهلكنا المسرفين وبيان لكيفية إهلاكهم وسببه وتنبيه على كثرتهم وكم خبرية مفيدة للتكثير محلها النصب على أنها مفعول لقصمنا ومن قرية تمييز وفي لفظ القصم الذي هو عبارة عن الكسر بإبانة أجزاء المكسورة وإزالة تأليفها بالكلية من الدلالة على قوة الغضب وشدة السخط مالا يخفي وقوله تعالى «كانت ظالمة» في محل الجر على أنها صفة لقرية بتقدير مضاف ينبئ عنه الضمير الآتي أي وكثيرا قصمنا من أهل قرية كانوا ظالمين بآيات الله تعالى كافرين بها كدأبكم «وأنشأنا بعدها» أي بعد إهلاكها «قوما آخرين» اي ليسوا منهم نسبا ولا دينا ففيه تنبيه على استئصال الأولين وقطع دابرهم بالكلية وهو السر في تقديم حكاية إنشاء هؤلاء على حكاية مبادئ إهلاك أولئك بقوله تعالى «فلما أحسوا بأسنا إذا هم») أي أدركوا عذابنا الشديد إدراكا تاما كأنه إدراك المشاهد المحسوس «منها يركضون» يهربون مسرعين راكضين دوابهم أو مشبهين بهم في فرط الإسراع «لا تركضوا» أي قيل لهم بلسان الحال أو بلسان المقال من الملك أو ممن ثمة من المؤمنين بطريق الاستهزاء والتوبيخ لا تركضوا «وارجعوا إلى ما أترفتم فيه» من التنعم والتلذذ والإتراف إبطار النعمة «ومساكنكم» التي كنتم تفتخرون بها «لعلكم تسألون» تقصدون للسؤال والتشاور والتدبير في المهمات
(٥٨)