تفسير أبي السعود - أبي السعود - ج ١ - الصفحة ٦٤
في ريب منه ارتيابهم في استقامة معانيه وصحة احكامه بل في نفس كونه وحيا منزلا من عند الله عز وجل وإيثار التنزيل المنبئ عن التدريج على مطلق الإنزال لتذكير منشأ ارتيابهم وبناء التحدي عليه إرخاء للعنان وتوسيعا للميدان فإنهم كانوا اتخذوا نزوله منجما وسيلة إلى انكاره فجعل ذلك من مبادى الاعتراف به كأنه قيل إن ارتبتم في شأن ما نزلناه على مهل وتدريج فهاتوا أنتم مثل نوبة فذة من نوبه ونجم فرد من نجومه فإنه أيسر عليكم من أن ينزل جملة واحدة ويتحدى بالكل وهذا كما ترى غاية ما يكون في التبكيت وإزاحة العلل وفي ذكره صلى الله عليه وسلم بعنوان العبودية مع الإضافة إلى ضمير الجلالة من التشريف والتنويه والتنبيه على اختصاصه به عز وجل وانقياده لأوامره تعالى مالا يخفى وقرئ على عبادنا والمراد هو صلى الله عليه وسلم وأمته أو جميع الأنبياء عليهم السلام ففيه إيذان بان الارتياب فيه ارتياب فيما أنزل من قبله لكونه مصدقا له ومهيمنا عليه والأمر في قوله تعالى «فأتوا بسورة» من باب التعجيز وإلقام الحجر كما في قوله تعالى «فأت بها من المغرب» والفاء للجواب وسببية الارتياب للأمر أو الإتيان بالمأمور به لما أشير إليه من أنه عبارة عن جزمهم المذكور فإنه سبب للأول مطلقا وللثاني على تقدير الصدق كأنه قيل إن كان الأمر كما زعمتم من كونه كلام البشر فأتوا بمثله لأنكم تقدرون على ما عليه سائر بني نوعكم والسورة الطائفة من القرآن العظيم المترجمة وأقلها ثلاث آيات وواوها أصلية منقولة من سور البلد لأنها محيطة بطائفة من القرآن مفرزة محوزة على حيالها أو محتوية على فنون رائقة من العلوم احتواء سور المدينة على ما فيها أو من السورة التي هي الرتبة قال * ولرهط حراب وقذ سورة * في المجد ليس غرابها بمطار * فإن سور القرآن مع كونها في أنفسها رتبا من حيث الفضل والشرف أو من حيث الطول والقصر فهي من حيث إنتظامها مع أخواتها في المصحف مراتب يرتقى إليها القارئ شيئا فشيئا وقيل واوها مبدلة من الهمزة فمعناها البقية من الشئ ولا يخفى ما فيه ومن في قوله «من مثله» بيانية متعلقة بمحذوف وقع صفة لسورة والضمير لما نزلنا أي بسورة كائنة من مثله في علو الرتبة وسمو الطبقة والنظم الرائق والبيان البديع وحيازة سائر نعوت الإعجاز وجعلها تبعيضية يوهم أن له مثلا محققا قد أريد تعجيزهم عن الإتيان ببعضه كأنه قيل فأتوا ببعض ما هو مثل له يفهم منه كون المماثلة من تتمة المعجوز عنه فضلا عن كونها مدارا للعجز مع أنه المراد وبناء الأمر على المجاراة معهم بحسب حسبانهم حيث كانوا يقولون لو نشاء لقلنا مثل هذا أو على التهكم بهم يأباه ما سبق من تنزيله منزلة الريب فإن مبنى التهكم على تسليم ذلك منهم وتسويفه ولو بغير جد وقيل هي زائدة على ما هو رأي الأخفش بدليل قوله تعالى «فأتوا بسورة مثله» «بعشر سور مثله» وقيل هي ابتدائية فالضمير حينئذ للمنزل عليه حتما لما أن رجوعه إلى المنزل يوهم أن له مثلا محققا قد ورد الأمر التعجيزي بالإتيان بشئ منه وقد عرفت ما فيه بخلاف رجوعه إلى المنزل عليه فإن تحقق مثله عليه السلام في البشرية والعربية والأمية يهون الخطب في الجملة خلا أن تخصيص التحدي يفرد يشاركه عليه السلام فيما ذكر من الصفات المنافية للإتيان بالمأمور به لا يدل على عجز من ليس كذلك من علمائهم بل ربما يوهم قدرتهم على ذلك في الجملة فرادى أو مجتمعين مع انه يستدعي عراء المنزل عما فصل من النعوت الموجبة لاستحالة وجود مثله فأين هذا من تحدى أمة جمة وأمرهم بأن يحتشدوا في حلبة المعارضة
(٦٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 مقدمة قاضي القضاة أبو السعود 3
2 (الجزء الأول) 1 - سورة الفاتحة 7
3 2 - سورة البقرة 20
4 تفسير قوله تعالى إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها 71
5 أتأمرون الناس بالبر و تنسون أنفسكم 97
6 وإذا استسقى موسى لقومه 105
7 أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون 116
8 ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون 130
9 ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير 142
10 وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن 154
11 (الجزء الثاني) سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها 170
12 إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما 181
13 ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر 192
14 يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها 203
15 واذكروا الله في أيام معدودات 210
16 يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس و إثمهما أكبر من نفعهما 218
17 والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة 230
18 ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت 237
19 (الجزء الثالث) تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض 245
20 قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حميد 258
21 ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء 264
22 وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة 271