«يا أيها الناس اعبدوا ربكم» إثر ما ذكر الله تعالى علو طبقة كتابه الكريم وتحزب الناس في شأنه إلى ثلاث فرق مؤمنة به محافظة على ما فيه من الشرائع والأحكام وكافرة قد نبذته وراء ظهرها بالمجاهرة والشقاق وأخرى مذبذبة بينهما بالمخادعة والنفاق ونعت كل فرقة منها بما لها من النعوت والأحوال وبين مالهم من المصير والمآل أقبل عليهم بالخطاب على نهج الالتفات هزأ لهم إلى الإصغاء وتوجيها لقلوبهم نحو التلقي وجبرا لما في العبادة من الكلفة بلذة الخطاب فأمرهم كافة بعبادته ونهاهم عن الإشراك به ويا حرف وضع لنداء البعيد وقد ينادى به القريب تنزيلا له منزلة البعيد إما إجلالا كما في قول الداعي يا الله ويا رب وهو أقرب إليه من حبل الوريد استقصارا لنفسه واستبعادا لها من محافل الزلفى ومنازل المقربين وإما تنبيها على غفلته وسوء فهمه وقد يقصد به التنبيه على أن ما يعقبه أمر خطير يعتنى بشأنه وأي اسم مبهم جعل وصلة إلى نداء المعروف باللام لا على أنه المنادى أصالة بل على أنه صفة موضحة له مزيلة لإبهامه والتزام رفعه مع انتصاب موصوفه محلا إشعارا بأنه المقصود بالنداء وأقحمت بينهما كلمة التنبيه تأكيدا لمعنى النداء وتعويضا عما يستحقه أي من المضاف إليه ولما ترى من استقلال هذه الطريقة بضروب من أسباب المبالغة والتأكيد كثر سلوكها في التنزيل المجيد كيف لا وكل ما ورد في تضاعيفه على العباد من الأحكام والشرائع وغير ذلك خطوب جليلة حقيقة بأن تقشعر منها الجلود وتطمئن بها القلوب الآبية ويتلقوها بآذان واعية وأكثرهم عنها غافلون فاقتضى الحال المبالغة والتأكيد في الإيقاظ والتنبيه والمراد بالناس كافة المكلفين الموجودين في ذلك العصر لما أن الجموع واسماءها المحلاة باللام للعموم بدليل صحة الاستثناء منها والتأكيد بما يفيد العموم كما في قوله تعالى «فسجد الملائكة كلهم أجمعون» واستدلال الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين بعمومها شائعا ذائعا وأما من عداهم ممن سيوجد منهم فغير داخلين في خطاب المشافهة وأنما دخولهم تحت حكمة لما تواتر من دينه صلى الله عليه وسلم ضرورة أن مقتضى خطابه وأحكامه شامل للموجودين من المكلفين ولمن سيوجد منهم إلى قيام الساعة ولا يقدح في العموم ما روى عن علقمة والحسن البصري من أن كل ما نزل فيه يا أيها الناس فهو مكي إذ ليس من ضرورة نزوله بمكة شرفها الله تعالى اختصاص حكمة بأهلها ولا من قضية اختصاصه بهم اختصاصه بالكفار إذ لم يكن كل أهلها حينئذ كفرة ولا ضير في تحقق العبادة في بعض المكلفين قبل ورود هذا الأمر لما أن المأمور به القدر المشترك الشامل لإنشاء العبادة والثبات عليها والزيادة فيها مع أنها متكررة حسب تكرر أسبابها ولا في انتفاء شرطها في الآخرين منهم أعنى الإيمان لأن الأمر بها منتظم للأمر بما لا تم الا به وقد علم من الدين ضرورة اشتراطها به فإن أمر المحدث بالصلاة مستتبع للأمر بالتوضى لا محالة وقد قيل المراد بالعبادة ما يعم أفعال القلب أيضا لما أنها عبارة عن غاية التذلل والخضوع وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن كل ما ورد في القرآن من العبادات فمعناها التوحيد وقيل معنى اعبدوا وحدوا وأطيعوا ولا في كون بعض من الفرقتين الأخيرتين ممن لا يجدى فيهم الإنذار بموجب النص القاطع لما أن الأمر لقطع الأعذار
(٥٨)