الثالثة - فأما تزكية الغير ومدحه له، ففي البخاري من حديث أبي بكرة أن رجلا ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه رجل خيرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
(ويحك قطعت عنق صاحبك - يقوله مرارا - إن كان أحدكم مادحا لا محالة فليقل أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك وحسيبه الله ولا يزكي على الله أحدا) فنهى صلى الله عليه وسلم أن يفرط في مدح الرجل بما ليس فيه فيدخله في ذلك الاعجاب والكبر، ويظن أنه في الحقيقة بتلك المنزلة فيحمله، ذلك على تضييع العمل وترك الازدياد من الفضل، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ويحك قطعت عنق صاحبك). وفي الحديث الآخر (قطعتم ظهر الرجل) حين وصفوه بما ليس فيه. وعلى هذا تأول العلماء قوله صلى الله عليه وسلم: (احثوا التراب في وجوه المداحين) إن المراد به المداحون في وجوههم بالباطل وبما ليس فيهم، حتى يجعلوا ذلك بضاعة يستأكلون به الممدوح ويفتنونه، فأما مدح الرجل بما فيه من الفعل الحسن والامر المحمود ليكون منه ترغيبا له في أمثاله وتحريضا للناس على الاقتداء به في أشباهه فليس بمداح، وإن كان قد صار مادحا بما تكلم به من جميل القول فيه. وهذا راجع إلى النيات (والله يعلم المفسد من المصلح). وقد مدح صلى الله عليه وسلم في الشعر والخطب والمخاطبة ولم يحث في وجوه المداحين التراب، ولا أمر بذلك. كقول أبي طالب:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل وكمدح العباس وحسان له في شعرهما، ومدحه كعب بن زهير، ومدح هو أيضا أصحابه فقال: (إنكم لتقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع). وأما قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح الحديث: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم وقولوا: عبد الله ورسوله) فمعناه لا تصفوني بما ليس في من الصفات تلتمسون بذلك مدحي، كما وصفت النصارى عيسى بما لم يكن فيه، فنسبوه إلى أنه ابن الله فكفروا بذلك وضلوا. وهذا يقتضي أن من رفع أمرا فوق حده وتجاوز مقداره بما ليس فيه فمعتد آثم، لان ذلك لو جاز في أحد لكان أولى الخلق بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.