فبكى عمر حتى اخضلت لحيته ثم قال: يا غلام، أعطه قميصي هذا لذلك اليوم لا لشعره!
والله لا أملك غيره. قال الماوردي: وإذا كان العطاء على هذا الوجه خاليا من طلب جزاء وشكر وعريا عن امتنان ونشر كان ذلك أشرف للباذل وأهنأ للقابل. فأما المعطى إذا التمس بعطائه الجزاء، وطلب به الشكر والثناء، كان صاحب سمعة ورياء، وفى هذين من الذم ما ينافي السخاء. وإن طلب كان تاجرا مربحا لا يستحق حمدا ولا مدحا. وقد قال ابن عباس في قوله تعالى: " ولا تمنن تستكثر (1) " أي لا تعطى عطية تلتمس بها أفضل منها. وذهب ابن زيد إلا أن هذه الآية إنما هي في الذين لا يخرجون في الجهاد بل ينفقون وهم قعود، وإن الآية التي قبلها هي في الذين يخرجون بأنفسهم، قال: ولذلك شرط على هؤلاء ولم يشترط على الأولين. قال ابن عطية: وفى هذا القول نظر، لان التحكم فيه باد.
الثالثة - قوله تعالى: (منا ولا أذى) المن: ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها، مثل أن يقول: قد أحسنت إليك ونعشتك وشبهه. وقال بعضهم: المن: التحدث بما أعطى حتى يبلغ ذلك المعطى فيؤذيه. والمن من الكبائر، ثبت ذلك في صحيح مسلم وغيره، وأنه أحد الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، وروى النسائي عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاق لوالديه والمرأة المترجلة تتشبه بالرجال والديوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه والمدمن الخمر والمنان بما أعطى ". وفى بعض طرق مسلم: " المنان هو الذي لا يعطى شيئا إلا منة ". والأذى: السب والتشكي، وهو أعم من المن، لان المن جزء من الأذى لكنه نص عليه لكثرة وقوعه. وقال ابن زيد: لئن ظننت أن سلامك يثقل على من أنفقت عليه تريد وجه الله فلا تسلم عليه. وقالت له امرأة: يا أبا أسامة دلني على رجل يخرج في سبيل الله حقا فإنهم إنما يخرجون يأكلون الفواكه فإن عندي أسهما وجعبة. فقال: لا بارك الله في أسهمك وجعبتك فقد آذيتهم قبل أن تعطيهم. قال علماؤنا رحمة الله عليهم: فمن أنفق في سبيل الله ولم يتبعه منا ولا أذى كقوله:
ما أشد إلحاحك! وخلصنا الله منك! وأمثال هذا فقد تضمن الله له الاجر، والاجر الجنة،