السلام نهى من لم يكن في أرض الوباء عن دخولها إذا وقع فيها، ونهى من هو فيها عن الخروج منها بعد وقوعه فيها فرارا منه، فكذلك الواجب أن يكون حكم كل متق من الأمور غوائلها، سبيله في ذلك سبيل الطاعون. وهذا المعنى نظير قوله عليه السلام: " لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا ".
قلت: وهذا هو الصحيح في الباب، وهو مقتضى قول الرسول عليه السلام، وعليه عمل أصحابه البررة الكرام [رضى الله (1) عنهم]، وقد قال عمر لأبي عبيدة محتجا عليه لما قال له: أفرارا من قدر الله! فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة " نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله.
المعنى: أي لا محيص للانسان عما قدره الله له وعليه، ولكن أمرنا الله تعالى بالتحرز من المخاوف [والمهلكات (2)]، وباستفراغ الوسع في التوقي من المكروهات. ثم قال له: أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت واديا له عدوتان (3) إحداهما خصبة (4) والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله [عز وجل]. فرجع عمر من موضعه ذلك إلى المدينة. قال الكيا الطبري: ولا نعلم خلافا أن الكفار أو قطاع الطريق إذا قصدوا بلدة ضعيفة لا طاقة لأهلها بالقاصدين فلهم أن يتنحوا (5) من بين أيديهم، وإن كانت الآجال المقدرة لا تزيد ولا تنقص. وقد قيل: إنما نهى عن الفرار منه لان الكائن بالموضع الذي الوباء فيه لعله قد أخذ بحظ منه، لاشتراك أهل ذلك الموضع في سبب ذلك المرض العام، فلا فائدة لفراره، بل يضيف إلى ما أصابه من مبادئ الوباء مشقات السفر، فتتضاعف الآلام ويكثر الضرر فيهلكون بكل طريق ويطرحون في كل فجوة ومضيق، ولذلك يقال:
ما فر أحد من الوباء فسلم، حكاه ابن المدائني. ويكفي في (6) ذلك موعظة قوله تعالى:
" ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا " ولعله إن فر ونجا يقول: إنما نجوت من أجل خروجي عنه فيسوء اعتقاده. وبالجملة فالفرار منه ممنوع لما ذكرناه، ولما فيه من تخلية البلاد: ولا تخلو من مستضعفين يصعب عليهم الخروج