الثانية - كل بدعة صدرت من مخلوق فلا يخلو أن يكون لها أصل في الشرع أولا، فإن كان لها أصل كانت واقعة تحت عموم ما ندب الله إليه وخص رسوله عليه، فهي في حيز المدح. وإن لم يكن مثاله موجودا كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف، فهذا فعله من الافعال المحمودة، وإن لم يكن الفاعل قد سبق إليه. ويعضد هذا قول عمر رضي الله عنه: نعمت البدعة هذه (1)، لما كانت من أفعال الخير وداخلة في حيز المدح، وهي وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد صلاها إلا أنه تركها ولم يحافظ عليها، ولا جمع الناس، عليها، فمحافظة عمر رضي الله عنه عليها، وجمع الناس لها، وندبهم إليها، بدعة لكنها بدعة محمودة ممدوحة. وإن كانت في خلاف ما أمر لله به ورسوله فهي في حيز الذم والانكار، قال معناه الخطابي وغيره.
قلت: وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته: (وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة) يريد ما لم يوافق كتابا أو سنة، أو عمل الصحابة رضي الله عنهم، وقد بين هذا بقوله: (من سن في الاسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شئ ومن سن في الاسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شئ). وهذا إشارة إلى ما ابتدع من قبيح وحسن، وهو أصل هذا الباب، وبالله العصمة والتوفيق، لا رب غيره.
الثالثة - قوله تعالى: " وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " أي إذا أراد إحكامه وإتقانه - كما سبق في علمه - قال له كن. قال ابن عرفة: قضاء الشئ إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه، ومنه سمي القاضي، لأنه إذا حكم فقد فرغ مما بين الخصمين.
وقال الأزهري: قضى في اللغة على وجوه، مرجعها إلى انقطاع الشئ وتمامه، قال أبو ذؤيب:
وعليهما مسرودتان قضاهما * داود أو صنع السوابغ تبع (2) وقال الشماخ في عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
قضيت أمورا ثم غادرت بعدها * بواثق في أكمامها لم تفتق