الخامسة - سمي رسول الله صلى الله عليه وسلم الفصاحة في الكلام واللسانة فيه سحرا، فقال: (إن من البيان لسحرا) أخرجه مالك وغيره. وذلك لان فيه تصويب الباطل حتى يتوهم السامع أنه حق، فعلى هذا يكون قوله عليه السلام: (إن من البيان لسحرا) خرج مخرج الذم للبلاغة والفصاحة، إذ شبهها بالسحر. وقيل: خرج مخرج المدح للبلاغة والتفضيل للبيان، قاله جماعة من أهل العلم. والأول أصح، والدليل عليه قوله عليه السلام:
(فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض)، وقوله: (إن أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون). الثرثرة: كثرة الكلام وترديده، يقال: ثرثر الرجل فهو ثرثار مهذار. والمتفيهق نحوه. قال ابن دريد. فلان يتفيهق في كلامه إذا توسع فيه وتنطع، قال: وأصله الفهق وهو الامتلاء، كأنه ملا به فمه.
قلت: وبهذا المعنى الذي ذكرناه فسره عامر الشعبي راوي الحديث وصعصعة بن صوحان فقالا: أما قوله صلى الله عليه وسلم: (إن من البيان لسحرا) فالرجل يكون عليه ألحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق وهو عليه، وإنما يحمد العلماء البلاغة واللسانة ما لم تخرج إلى حد الاسهاب والاطناب، وتصوير الباطل في صورة الحق. وهذا بين، والحمد لله.
السادسة - من السحر ما يكون كفرا من فاعله، مثل ما يدعون من تغيير صور الناس، وإخراجهم في هيئة بهيمة، وقطع مسافة شهر في ليلة، والطيران في الهواء، فكل من فعل هذا ليوهم الناس أنه محق فذلك كفر منه، قاله أبو نصر عبد الرحيم القشيري. قال أبو عمرو:
من زعم أن الساحر يقلب الحيوان من صورة إلى صورة، فيجعل الانسان حمارا أو نحوه، ويقدر على نقل الأجساد وهلاكها وتبديلها، فهذا يرى قتل الساحر لأنه كافر بالأنبياء، يدعي مثل آياتهم ومعجزاتهم، ولا يتهيأ مع هذا علم صحة النبوة إذ قد يحصل مثلها بالحيلة.
وأما من زعم أن السحر خدع ومخاريق وتمويهات وتخييلات فلم يجب على أصله قتل الساحر، إلا أن يقتل بفعله أحدا فيقتل به.