وهذا المعنى بعينه هو الموجب لامتناعه عن نظر العيون فإنها آلات مركبة مبنية على الحدود لا تعمل إلا في المحدود، وجلت ساحة رب العزة عن الحد.
وقوله عليه السلام: " لا يجرى عليه السكون والحركة " (الخ)، بمنزلة العود إلى أول الكلام ببيان آخر يبين به أن هذه الأفعال والحوادث التي هي تنتهى إلى الحركة والسكون لا تجرى عليه، ولا تعود فيه ولا تحدث فإنها آثاره التي تترتب على تأثيره في غيره، ومعنى تأثير المؤثر توجيهه أثره المتفرع على نفسه إلى غيره، ولا معنى لتأثير الشئ في نفسه إلا بنوع من التجزى والتركيب العارض لذاته كالانسان مثلا يدبر بنفسه بدنه، ويضرب بيده على رأسه، والطبيب يداوى بطبه مرضه فكل ذلك إنما يصح لاختلاف في الاجزاء أو الحيثيات، ولولا ذلك لامتنع وقوع التأثير.
فالقوة الباصرة مثلا لا تبصر نفسها، والنار لا تحرق ذاتها، وهكذا جميع الفواعل لا تفعل إلا في غيرها إلا مع التركيب والتجزئة كما عرفت، وهذا معنى قوله:
" إذا لتفاوتت ذاته، ولتجزأ كنهه، ولامتنع من الأزل معناه " (الخ).
وقوله عليه السلام: " وإذا لقامت آية المصنوع فيه، ولتحول دليلا بعد أن كان مدلولا عليه " أي إذا لزمه النقص من تطرق هذه الحدود والاقدار عليه، والنقص من علائم المصنوعية وامارات الامكان كان (تعالى وتقدس) مقارنا لما يدل على كونه مصنوعا وكان نفسه كسائر المصنوعات دليلا على موجود آخر أزلي كامل الوجود غير محدود الذات هو الاله المنزه عن كل نقص مفروض، المتعالى عن أن تناله أيدي الحدود والاقدار.
واعلم أن ما يدل عليه قوله - من كون الدلالة هي من شؤون المصنوع الممكن - لا ينافي ما يستفاد من سائر كلامه وكلام سائر أئمة أهل البيت عليهم السلام: أنه تعالى معلوم بنفس ذاته، وغيره معلوم به، وأنه دال على ذاته، وهو الدليل على مخلوقاته فإن العلم غير العلم والدلالة غير الدلالة، وأرجو أن يوفقني الله تعالى لايضاحه وبسط الكلام فيه في بعض ما يرتبط به من الأبحاث الآتية إن شاء الله العزيز.
وفي التوحيد بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قال: بينا أمير المؤمنين عليه السلام يخطب على منبر الكوفة إذ قام إليه رجل يقال له " ذعلب " ذرب اللسان، بليغ في