ولولا أن المفاهيم تسقط عند الاشراف على ساحة عظمته وكبريائه بالمعنى الذي تقدم لأمكن للعقل أن يحيط به بما عنده من المفاهيم العامة المبهمة كوصفه بأنه ذات لا كالذوات، وله علم لا كالعلوم، وقدرة لا كقدرة غيره، وحياة لا كسائر أقسام الحياة، فإن هذا النحو من الوصف لا يدع شيئا إلا أحصاه وأحاطة به إجمالا فهل يمكن أن يحيط به سبحانه شئ؟ أو أن الممنوع هو الإحاطة به تفصيلا، وأما الإحاطة الاجمالية فلا بأس بها؟ وقد قال تعالى: " ولا يحيطون به علما " (طه: 110)، وقال: " إلا إنه بكل شئ محيط " (حم السجدة: 54)، والله سبحانه لا يحيط به شئ من جهة من الجهات بنحو من أنحاء الإحاطة، ولا يقبل ذاته المقدسة إجمالا وتفصيلا حتى يتبعض فيكون لاجماله حكم ولتفصيله حكم آخر فافهم ذلك.
وفي الاحتجاج عنه عليه السلام في خطبة: " دليله آياته، ووجوده إثباته، ومعرفته توحيده، وتوحيده تمييزه من خلقه، وحكم التمييز بينونة صفة لا بينونة عزلة إنه رب خالق، غير مربوب مخلوق، ما تصور فهو بخلافه - ثم قال عليه السلام: - ليس بإله من عرف بنفسه، هو الدال بالدليل عليه، والمؤدى بالمعرفة إليه ".
أقول: التأمل فيما تقدم يوضح أن الخطبة مسوقة لبيان كون وحدته تعالى وحدة غير عددية لصراحته في أن معرفته تعالى عين توحيده أي إثبات وجوده عين إثبات وحدته، ولو كانت هذه الوحدة عددية لكانت غير الذات فكانت الذات في نفسها لا تفي بالوحدة إلا بموجب من خارج عن جهة ثبوت الذات.
وهذا من عجيب المنطق وأبلغ البيان في باب التوحيد الذي يحتاج شرحه إلى مجال وسيع لا يسعه طراز البحث في هذا الكتاب، ومن ألطف المقاصد الموضوعة فيه قوله عليه السلام: " وجوده إثباته " يريد به أن البرهان عليه نفس وجوده الخارجي أي انه لا يدخل الذهن، ولا يسعه العقل.
قوله: " ما تصور فهو بخلافه " ليس المراد به أنه غير الصورة الذهنية فان جميع الأشياء الخارجية على هذا النعت، بل المراد أنه تعالى بخلاف ما يكشف عنه التصور الذهني أيا ما كان، فلا يحيط به صورة ذهنية، ولا ينبغي لك ان تغفل عن انه أنزه ساحة حتى من هذا التصور أعني تصور انه بخلاف كل تصور.
وقوله: " ليس باله من عرف بنفسه " مسوق لبيان جلالته تعالى عن أن يتعلق