وربما ذكروا لليد معاني مختلفة في اللغة غير الجارحة كالقدرة والقوة والنعمة والملك وغير ذلك، لكن الحق أن اللفظة موضوعة في الأصل للجارحة، وإنما استعملت في غيرها من المعاني على نحو الاستعارة لكونها من الشؤون المنتسبة إلى الجارحة نوعا من الانتساب كانتساب الانفاق والجود إلى اليد من حيث بسطها، وانتساب الملك إليها من حيث التصرف والوضع والرفع وغير ذلك.
فما يثبته الكتاب والسنة لله سبحانه من اليد يختلف معناه باختلاف الموارد كقوله تعالى: " بل يداه مبسوطتان " (الآية)، وقوله: " أن تسجد لما خلقت بيدي " (ص: 75) يراد به القدرة وكمالها، وقوله: " بيدك الخير " (آل عمران: 26)، وقوله: " فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ " (يس: 83)، وقوله: " تبارك الذي بيده الملك " (الملك: 1)، إلى غير ذلك يراد بها الملك والسلطة، وقوله:
" لا تقدموا بين يدي الله ورسوله " (الحجرات: 1) يراد بها الحضور ونحوه.
وأما قوله: " ينفق كيف يشاء " فهو بيان لقوله: " يداه مبسوطتان ".
قوله تعالى: " وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا " هذه الجملة وما يتلوها إلى آخر الآية كلام مسرود لتوضيح قوله: " وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا " على ما يعطيه السياق.
فأما قوله: " وليزيدن كثيرا منهم " (الخ)، فيشير إلى أن اجتراءهم على الله العظيم وتفوههم بمثل قولهم: " يد الله مغلولة " ليس من المستبعد منهم فإن القوم متلبسون بالاعتداء والكفر من قديم أيامهم، وقد أورثهم ذلك البغى والحسد، ولا يؤمن من هذه سجيته إذا رأى أن الله فضل غيره عليه بما لا يقدر قدره من النعمة أن يزداد طغيانا وكفرا.
واليهود كانت ترى لنفسها السيادة والتقدم على الدنيا، وكانت تتسمى بأهل الكتاب، وتتباهى بالربانيين والاحبار وتفتخر بالعلم والحكمة وتسمى سائر الناس أميين، فإذا رأت قرآنا نازلا على قوم كانت تتذلل لعلمها وكتابها - كما كانت هي الحرمة المراعاة بينها وبين العرب في الجاهلية - ثم أمعنت فيه فوجدته كتابا إلهيا مهيمنا على ما تقدم عليه من الكتب السماوية، ومشتملا على الحق الصريح والتعليم