لا يأباه تعليمهم الديني والاراء الموجودة في التوراة، فالتوراة تجوز أن يكون الأمور معجزا لله سبحانه وصادا مانعا له من إنفاذ بعض ما يريده من مقاصده كالأقوياء من الانسان، يشهد بذلك ما تقصه من قصص الأنبياء كآدم وغيره.
فعندهم من وجوه الاعتقاد ما يبيح لهم أن ينسبوا إليه تعالى ما لا يناسب ساحة قدسه وكبرياء ذاته جلت عظمته وإن كانت الكلمة إنما صدرت منهم استهزاء فإن لكل فعل مبادئ في الاعتقاد ينبعث إليه الانسان منها ويتجرء بها.
وأما قوله: " غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا " فهو دعاء عليهم بعذاب مشابه لما نسبوا إليه تعالى من النقص غير المناسب لساحة قدسه، وهو مغلولية اليد وانسلاب القدرة على ما يحبه ويشاؤه، وعلى هذا فقوله: " ولعنوا بما قالوا " عطف تفسير على قوله: " غلت أيديهم " فإن مغلولية أيديهم مصداق لعنة الله عليهم إذ القول من الله سبحانه فعل، ولعنه تعالى أحدا إنما هو تعذيبه بعذاب إما دنيوي أو أخروي فاللعن هو العذاب المساوى لغل أيديهم أو الأعم منه ومن غيره.
وربما احتمل كون قوله: " غلت أيديهم " (الخ) إخبارا عن وقوع كلمة العذاب وهو جزاء اجترائهم على الله سبحانه بقولهم: " يد الله مغلولة " عليهم، والوجه الأول أقرب من الفهم.
وأما قوله: " بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء فهو جواب عن قولهم:
يد الله مغلولة " مضروب في قالب الاضراب.
والجملة أعني قوله: " يداه مبسوطتان " كناية عن ثبوت القدرة، وهو شائع في الاستعمال.
وإنما قيل: " يداه " بصيغة التثنية مع كون اليهود إنما أتوا في قولهم: " يد الله مغلولة " بصيغة الافراد ليدل على كمال القدرة كما ربما يستفاد من نحو قوله تعالى: " قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين " (ص: 75) لما فيه من الاشعار أو الدلالة على إعمال كمال القدرة، ونحو قولهم: " لا يدين بها لك " فإن ذلك مبالغة في نفى كل قدرة ونعمة.