والقيام ما يقوم به الشئ، قال الراغب: والقيام والقوام اسم لما يقوم به الشئ أي يثبت كالعماد والسناد لما يعمد ويسند به كقوله: " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما " أي جعلها مما يمسككم، وقوله: " جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس " أي قواما لهم يقوم به معاشهم ومعادهم، قال الأصم: قائما لا ينسخ، وقرئ: قيما بمعنى قياما، انتهى.
فيرجع معنى قوله: " جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس " إلى أنه تعالى جعل الكعبة بيتا حراما احترمه، وجعل بعض الشهور حراما، ووصل بينهما حكما كالحج في ذي الحجة الحرام وجعل هناك أمورا تناسب الحرمة كالهدى والقلائد كل ذلك لتعتمد عليه حياة الناس الاجتماعية السعيدة.
فإنه جعل البيت الحرام قبلة يوجه إليه الناس وجوههم في صلواتهم ويوجهون إليه ذبائحهم وأمواتهم، ويحترمونه في سيئ حالاتهم، فيتوحد بذلك جمعهم، ويجتمع به شملهم، ويحيى ويدوم به دينهم، ويحجون إليه من مختلف الأقطار وأقاصي الآفاق فيشهدون منافع لهم، ويسلكون به طرق العبودية.
ويهدى باسمه وبذكره والنظر إليه والتقرب به والتوجه إليه العالمون، وقد بينه الله تعالى بوجه آخر قريب من هذا الوجه بقوله: " إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين " (آل عمران: 96)، وقد وافاك في الآية في الجزء الثالث من هذا الكتاب من الكلام ما يتنور به المقام.
ونظير ذلك الكلام في كون الشهر الحرام قياما للناس وقد حرم الله فيه القتال، وجعل الناس فيه في أمن من حيث دمائهم وأعراضهم وأموالهم، ويصلحون فيه ما فسد أو اختل من شؤون حياتهم، والشهر الحرام بين الشهور كالموقف والمحط الذي يستريح فيه المتطرق التعبان، وبالجملة البيت الحرام والشهر الحرام وما يتعلق بذلك من هدى وقلائد قيام للناس من عامة جهات معاشهم ومعادهم، ولو استقرا المفكر المتأمل جزئيات ما ينتفع به الناس انتفاعا جاريا أو ثابتا من بركات البيت العتيق والشهر الحرام من صلة الأرحام، ومواصلة الأصدقاء، وإنفاق الفقراء، واسترباح الأسواق، وموادة الاقرباء والأداني، ومعارفة الأجانب والأباعد، وتقارب القلوب، وتطهر الأرواح،