الله لكم، ولا تحللوا ما حرم الله عليكم.
فكل من المعنيين وإن كان في نفسه صحيحا يدل عليه الكتاب بما لا غبار عليه لكن شيئا منهما لا ينطبق على الآية بظاهر سياقها وسياق ما يتلوها من الآية اللاحقة فما كل معنى صحيح يمكن تحميله على كل لفظ كيفما سيق وأينما وقع.
قوله تعالى: " وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا " إلى آخر الآية، ظاهر العطف أعني انعطاف قوله: " وكلوا " على قوله: " لا تحرموا " أن يكون مفاد هذه الآية بمنزلة التكرار والتأكيد لمضمون الآية السابقة، ويؤيده سياق صدر الآية من حيث اشتماله على قوله: " حلالا طيبا " وهو يحاذي قوله في الآية السابقة: " طيبات ما أحل الله "، وكذا ذيلها من حيث المحاذاة الواقعة بين قوله فيه: " واتقوا الله إن كنتم مؤمنين " وقوله في الآية السابقة: يا أيها الذين آمنوا " وقد مر بيانه.
وعلى هذا فقوله: " كلوا " " الخ "، من قبيل ورود الامر عقيب الحظر، وتخصيص قوله: " كلوا " بعد تعميم قوله: " لا تحرموا طيبات " (الخ)، إما تخصيص بحسب اللفظ فقط، والمراد بالاكل مطلق التصرف، فيما رزقه الله تعالى من طيبات نعمه، سواء كان بالاكل بمعنى التغذي أو بسائر وجوه التصرف، وقد تقدم مرارا أن استعمال الاكل بمعنى مطلق التصرف استعمال شائع ذائع.
وإما أن يكون المراد - ومن الممكن ذلك - الاكل بمعناه الحقيقي، ويكون سبب نزول الآيتين تحريم بعض المؤمنين في زمن النزول المأكولات الطيبة على أنفسهم فتكون الآيتان نازلتين في النهى عن ذلك، وقد عمم النهى في الآية الأولى للاكل وغيره إعطاء للقاعدة الكلية لكون ملاك النهى يعم محللات الاكل وغيرها على حد سواء.
وقوله: " مما رزقكم الله " لازم ما استظهرناه من معنى الآيتين كونه مفعولا لقوله: " كلوا " وقوله: " حلالا طيبا " حالين من الموصول وبذلك تتوافق الآيتان، وربما قيل: إن قوله: " حلالا طيبا " مفعول قوله: " كلوا " وقوله: " مما رزقكم الله " متعلق بقوله: " كلوا " أو حال من الحلال قدم عليه لكونه نكرة أو كون قوله:
" حلالا " وصفا لمصدر محذوف، والتقدير: رزقا حلالا طيبا إلى غير ذلك.
وربما استدل بعضهم بقوله: " حلالا " على أن الرزق يشمل الحلال والحرام