إلا ما خلفته وراءها ولا تمشي إليه إلا القهقري.
وهذا الانسان وهو بالطبع والفطرة متوجه نحو ما يراه خيرا وسعادة لنفسه كلما توجه إلى ما يراه خيرا لنفسه وصلاحا لدينه أو لدنياه لم ينل إلا شرا وفسادا وكلما بالغ في التقدم زاد في التأخر وليس يفلح أبدا.
وأما لعنهم كلعن أصحاب السبت فظاهره المسخ على ما تقدم من آيات أصحاب السبت التي تخبر عن مسخهم قردة.
وعلى هذا فلفظة أو في قوله أو نلعنهم على ظاهرها من إفادة الترديد والفرق بين الوعيدين أن الأول أعني الطمس يوجب تغيير مقاصد المغضوب عليهم من غير تغيير الخلقة إلا في بعض كيفياتها والثاني أعني اللعن كلعن أصحاب السبت يوجب تغيير المقصد بتغيير الخلقة الانسانية إلى خلقه حيوانية كالقردة.
فهؤلاء إن تمردوا عن الامتثال وسوف يتمردون على ما تفيده خاتمة الآية كان لهم إحدى سخطتين إما طمس الوجوه وإما اللعن كلعن أصحاب السبت لكن الآية تدل على أن هذه السخطة لا تعمهم جميعهم حيث قال وجوها فأتى بالجمع المنكر ولو كان المراد هو الجميع لم ينكر ولتنكير الوجوه وعدم تعيينه نكتة أخرى هي أن المقام لما كان مقام الايعاد والتهديد وهو إيعاد للجماعة بشر لا يحلق إلا ببعضهم كان إبهام الافراد الذين يقع عليهم السخط الإلهي أوقع في الانذار والتخويف لان وصفهم على إبهامه يقبل الانطباق على كل واحد واحد من القوم فلا يأمن أحدهم أن يمسه هذا العذاب البئيس وهذه الصناعة شائعة في اللسان في مقام التهديد والتخويف.
وفي قوله تعالى أو نلعنهم حيث أرجع فيه ضمير هم الموضوع لأولي العقل إلى قوله وجوها كما هو الظاهر تلويحا أو تصريحا بأن المراد بالوجوه الاشخاص من حيث استقبالهم مقاصدهم وبذلك يضعف احتمال أن يكون المراد بطمس الوجوه وردها على أدبارها تحويل وجوه الأبدان إلى الأقفية كما قال به بعضهم ويقوى بذلك احتمال أن المراد من تحويل الوجوه إلى الادبار تحويل النفوس من حال استقامة الفكر وإدراك الواقعيات على واقعيتها إلى حال الاعوجاج والانحطاط الفكري بحيث لا يشاهد حقا إلا أعرض عنه واشمأز منه ولا باطلا إلا مال إليه وتولع به.