وهذا نوع من التصرف الإلهي مقتا ونقمة نظير ما يدل عليه قوله تعالى ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون: الانعام - 110.
فتبين مما مر أن المراد بطمس الوجوه في الآية نوع تصرف إلهي في النفوس يوجب تغيير طباعها من مطاوعة الحق وتجنب الباطل إلى اتباع الباطل والاحتراز عن الحق في باب الايمان بالله وآياته كما يؤيده صدر الآية آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس الخ وكذا تبين أن المراد باللعن المذكور فيها المسخ.
وربما قيل إن المراد بالطمس تحويل وجوه قوم إلى أقفيتهم ويكون ذلك في آخر الزمان أو يوم القيامة وفيه أن قوله أو نلعنهم ينافي ذلك كما تقدم بيانه.
وربما قيل إن المراد بالطمس الخذلان الدنيوي فلا يزالون على ذلة ونكبة لا يقصدون غاية ذات سعادة إلا بدلها الله عليهم سرابا لا خير فيه وفيه أنه وإن كان لا يبعد كل البعد لكن صدر الآية كما تقدم ينافيه.
وربما قيل إن المراد به إجلاؤهم وردهم ثانيا إلى حيث خرجوا منه وقد أخرجوا من الحجاز إلى أرض الشام وفلسطين وقد جاؤوا منهما وفيه أن صدر الآية بسياقه يؤيد غير ذلك كما عرفته.
نعم من الممكن أن يقال إن المراد به تقليب أفئدتهم وطمس وجوه باطنهم من الحق إلى نحو الباطل فلا يفلحون بالايمان بالله وآياته ثم إن الدين الحق لما كان هو الصراط الذي لا ينجح إنسان في سعادة حياته الدنيا إلا بركوبه والاستواء عليه وليس للناكب عنه إلا الوقوع في كانون الفساد والسقوط في مهابط الهلاك قال تعالى ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا: الروم:
41 وقال تعالى ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم: الأعراف - 96 ولازم هذه الحقيقة أن طمس الوجوه عن المعارف الحقة الدينية طمس لها عن حقائق سعادة الحياة الدنيا بجميع أقسامها فالمحروم من سعادة الدين محروم من سعادة الدنيا من استقرار الحال وتمهد الامن وسؤدد الاستقلال والملك وكل ما يطيب به العيش ويدر به ضرع العمل