فانظر إلى سياق الآيات الشريفة كيف أجمل القول فيها في النواهي الشرعية أولا وفي الأوامر الشرعية ثانيا وأنما أجمل بجمع الجميع تحت وصف لا يستنكف حتى العقل العامي من قبوله فإن الفواحش لا يتوقف في شناعتها ولزوم اجتنابها والكف عنها ذو مسكة وكذا الاجتماع على صراط مستقيم يؤمن به التفرق والضعف والوقوع في الهلكة والردى لا يرتاب فيه أحد بحكم الغريزة فقد استمد في هذه الدعوة من غرائز المدعوين ولذلك بعينه ذكر ما ذكر من المحرمات بعنوان التفصيل كعقوق الوالدين والإساءة إليهما وقتل الأولاد من إملاق وقتل النفس المحترمة وأكل مال اليتيم إلى آخر ما ذكر فأن العواطف الغريزية من الانسان تؤيد الدعوة في أمرها لاشمئزازها في حالها العادي عن ارتكاب هذه الجرائم والمعاصي وهناك آيات اخر يعثر عليها المتدبر ويرى أن الحال فيها نظير ما ذكرناه فيما نقلنا من الآيات.
وكيف كان فالآيات المكية شأنها الدعوة إلى مجملات فصلتها بعد ذلك الآيات المدنية ومع ذلك فالآيات المدنية نفسها لا تخلو عن مثل هذا التدرج فما جميع الأحكام والقوانين الدينية نزلت في المدينة دفعة واحدة بل تدريجا ونجوما ويكفيك التدبر في أنموذج منها قد تقدمت الإشارة إليها وهى آيات حرمة الخمر فقد قال تعالى ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا:
النحل - 67 والآية مكية ذكر فيها أمر الخمر وسكت عنه إلا ما في قوله ورزقا حسنا من الايماء إلى أن السكر ليس من الرزق الحسن ثم قال قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم: الأعراف - 33 والآية أيضا مكية تحرم الاثم صريحا لكن لم تبين أن شرب الخمر إثم إرفاقا في الدعوة إلى ترك عادة سيئة اجتذبتهم إليها شهواتهم ونبتت عليها لحومهم وشدت عظامهم ثم قال يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما: البقرة - 219 والآية مدنية تبين أن شرب الخمر من الاثم الذي حرمته آية الأعراف ولسان الآية كما ترى لسان رفق ونصح ثم قال تعالى يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون:
المائدة - 91 والآية مدنية ختم بها أمر التحريم.