من تأذى برؤية ثقيل لم يلبث أن يغتابه ويثلبه، وذلك فساد في الدين، وفى العزلة السلامة عن جميع ذلك.
* * * واعلم أن كلام أمير المؤمنين عليه السلام تختلف مناهجه، فقد رجح العزلة في هذا الفصل على المخالطة، ونهى عن العزلة في موضع آخر سيأتي ذكره في الفصل الذي أوله (أنه دخل على العلاء بن زياد الحارثي عائد)، ويجب أن يحمل ذلك على أن من الناس من العزلة خير له من المخالطة، ومنهم من هو بالضد من ذلك، وقد قال الشافعي قريبا من ذلك، قال ليونس بن عبد الأعلى صاحبه: يا يونس، الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة، والانبساط إليهم مجلبة لقرناء السوء، فكن بين المنقبض والمنبسط.
فإذا أردت العزلة فينبغي للمعتزل أن ينوى بعزلته كف شره عن الناس أولا، ثم طلب السلامة من شر الأشرار ثانيا، ثم الخلاص من آفة القصور عن القيام بحقوق المسلمين ثالثا، ثم التجرد بكنه الهمة بعبادة الله تعالى رابعا، فهذه آداب نيته، ثم ليكن في خلوته مواظبا على العلم والعمل، والذكر والفكر، ليجتني ثمرة العزلة. ويجب أن يمنع الناس عن أن يكثروا غشيانه وزيارته، فيتشوش وقته، وأن يكف نفسه عن السؤال عن أخبارهم وأحوالهم، وعن الاصغاء إلى أراجيف الناس وما الناس مشغولون به، فإن كل ذلك ينغرس في القلب حتى ينبعث على الخاطر والبال وقت الصلاة ووقت الحاجة إلى إحضار القلب، فإن وقوع الاخبار في السمع كوقوع البذر في الأرض، لا بد أن ينبت وتتفرع عروقه وأغصانه، وإحدى مهمات المعتزل قطع الوساوس الصارفة عن ذكر الله، ولا ريب أن الاخبار ينابيع الوساوس وأصولها.
ويجب أن يقنع باليسير من المعيشة، وإلا أضطره التوسع إلى الناس، واحتاج إلى مخالطتهم.