وثاني عشرها: أن ينصب نفسه لله في أرفع الأمور، وهو الخلوة به، ومقابلة أنوار جلاله بمرآة فكره، حتى تتكيف نفسه بتلك الكيفية العظيمة الاشراق، فهذا أرفع الأمور وأجلها وأعظمها، وقد رمز في هذا الفصل، ومزجه بكلام خرج به إلى أمر آخر، وهو فقه النفس في الدين، والأمور الشرعية النافعة للناس في دنياهم وأخراهم، أما في دنياهم:
فلردع المفسد وكف الظالم، وأما في أخراهم: فللفوز بالسعادة باعتبار امتثال الأوامر الإلهية.
فقال: (في إصدار كل وارد عليه)، أي في فتيا كل مستفت له، وهداية كل مسترشد له في الدين، ثم قال: (وتصيير كل فرع إلى أصله). ويمكن أن يحتج بهذا من قال بالقياس، ويمكن أن يقال: إنه لم يرد ذلك، بل أراد تخريج الفروع العقلية، وردها إلى أصولها، كما يتكلف أصحابنا القول في بيان حكمة القديم تعالى، في الآلام وذبح الحيوانات، ردا له إلى أصل العدل، وهو كونه تعالى لا يفعل القبيح.
وثالث عشرها: أن يكون مصباحا لظلمات الضلال، كشافا لعشوات الشبه، مفتاحا لمبهمات الشكوك المستغلقة دفاعا لمعضلات الاحتجاجات العقلية الدقيقة الغامضة، دليلا في فلوات الانظار الصعبة المشتبهة. ولم يكن في أصحاب محمد صلى الله عليه وآله أحد بهذه الصفة إلا هو.
ورابع عشرها: أن يقول مخاطبا لغيره فيفهمه ما خاطبه به، وأن يسكت فيسلم، وذلك لأنه ليس كل قائل مفهما، ولا كل ساكت سالما.
وخامس عشرها: أن يكون قد أخلص لله فاستخلصه الله، والاخلاص لله مقام عظيم جدا، وهو ينزه الافعال عن الرياء، وألا يمازج العبادة أمر لا يكون لله سبحانه، ولهذا كان بعض الصالحين يصبح من طول العبادة نصبا قشفا، فيكتحل ويدهن، ليذهب بذلك أثر العبادة عنه.