لم (تفقد) ك (تبرح) ألا ترى أنها معتلة، وتلك صحيحة! وكذلك لو قال: (لا تبرح منه رحمة ولا يفقد له إنعام) فإن (إنعاما) ليس في وزن (رحمة)، والموازنة مطلوبة في الكلام الذي يقصد فيه الفصاحة، لأجل الاعتدال الذي هو مطلوب الطبع في جميع الأشياء. والموازنة أعم من السجع، لان السجع تماثل أجزاء الفواصل لو أوردها على حرف واحد، نحو القريب، والغريب، والنسيب، وما أشبه ذلك. وأما الموازنة فنحو القريب والشديد، والجليل، وما كان على هذا الوزن وإن لم يكن الحرف الاخر بعينه واحدا، وكل سجع موازنة، وليس كل موازنة سجعا، ومثال الموازنة في الكتاب العزيز:
﴿وآتيناهما الكتاب المستبين * وهديناهما الصراط المستقيم﴾ (١)، وقوله تعالى:
(ليكونوا لهم عزا)، ثم قال: (ويكونون عليهم ضدا)، ثم قال: (تؤزهم أزا) ثم قال: ﴿نعد لهم عدا﴾ (2) فهذه الموازنة.
ومما جاء من المثال في الشعر قوله:
بأشدهم بأسا على أعدائهم وأعزهم فقدا على الأصحاب فقوله: (وأعزهم) بإزاء (أشدهم)، وقوله: (فقدا) بإزاء (بأسا).
والموازنة كثيرة في الكلام وهي في كتاب الله تعالى أكثر.
* * * [نبذ من كلام الحكماء في مدح القناعة وذم الطمع] فأما الفصل الثاني فيشتمل على التحذير من الدنيا، وعلى الامر بالقناعة، والرضا بالكفاف، فأما التحذير من الدنيا فقد ذكرنا ونذكر منه ما يحضرنا، وأما القناعة فقد ورد فيها شئ كثير.