واعلم أن هذا الفصل يشتمل على فصلين من كلام أمير المؤمنين عليه السلام: أحدهما حمد الله والثناء عليه إلى قوله: (ولا تفقد له نعمة)، والفصل الثاني ذكر الدنيا إلى آخر الكلام. وأحدهما غير مختلط بالآخر ولا منسوق عليه، ولكن الرضى رحمه الله تعالى يلتقط كلام أمير المؤمنين عليه السلام التقاطا، ولا يقف مع الكلام المتوالي، لان غرضه ذكر فصاحته عليه السلام لا غير، ولو أتى بخطبه كلها على وجهها لكانت أضعاف كتابه الذي جمعه.
* * * [فصل بلاغي في الموازنة والسجع] فأما الفصل الأول، فمشتمل من علم البيان على باب كبير يعرف بالموازنة، وذلك (غير مقنوط) فإنه وازنه في الفقرة الثانية بقوله: (ولا مخلو). ألا ترى أن كل واحدة منهما على وزن (مفعول)، ثم قال في الفقرة الثالثة: (ولا مأيوس)، فجاء بها على وزن (مفعول) أيضا، ولم يمكنه في الفقرة الرابعة ما أمكنه في الأولى، فقال: (ولا مستنكف) فجاء به على وزن (مستفعل) وهو وإن كان خارجا عن الوزن، فإنه غير خارج عن المفعولية، لان (مستفعل) (مفعول) في الحقيقة، كقولك: زيد مستحسن، ألا ترى أن (مستحسنا) من استحسنه، فهو أيضا غير خارج عن المفعولية.
ثم وازن عليه السلام بين قوله: (لا تبرح) وقوله: (لا تفقد)، وبين (رحمة) و (نعمة)، فأعطت هذه الموازنات الكلام من الطلاوة والصنعة ما لا تجده عليه لو قال:
(الحمد لله غير مخلو من نعمته، ولا مبعد من رحمته) لان (مبعد) بوزن (مفعل)، وهو غير مطابق ولا مماثل لمفعول، بل هو بناء آخر.
وكذلك لو قال: (لا تزول منه رحمة)، فإن (تزول) ليست في المماثلة والموازنة