وقد بقي هذا الخلق متوارثا متناقلا في محبيه وأوليائه إلى الآن، كما بقي الجفاء والخشونة والوعورة في الجانب الآخر، ومن له أدنى معرفة بأخلاق الناس وعوائدهم يعرف ذلك.
* * * وأما الزهد في الدنيا: فهو سيد الزهاد، وبدل الابدال، وإليه تشد الرحال، وعنده تنفض الأحلاس، ما شبع من طعام قط. وكان أخشن الناس مأكلا وملبسا، قال عبد الله بن أبي رافع: دخلت إليه يوم عيد، فقدم جرابا مختوما، فوجدنا فيه خبز شعير يابسا مرضوضا، فقدم فأكل، فقلت: يا أمير المؤمنين، فكيف تختمه؟ قال: خفت هذين الولدين أن يلتاه بسمن أو زيت.
وكان ثوبه مرقوعا بجلد تارة، وليف أخرى، ونعلاه من ليف. وكان يلبس الكرباس (1) الغليظ، فإذا وجد كمه طويلا قطعه بشفرة، ولم يخطه، فكان لا يزال متساقطا على ذراعيه حتى يبقى سدى لا لحمة له، وكان يأتدم إذا ائتدم بخل أو بملح، فإن ترقى عن ذلك فبعض نبات الأرض، فإن ارتفع عن ذلك فبقليل من ألبان الإبل، ولا يأكل اللحم إلا قليلا، ويقول: لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان. وكان مع ذلك أشد الناس قوة وأعظمهم أيدا، لا ينقض (2) الجوع قوته، ولا يخون (3) الإقلال منته.
وهو الذي طلق الدنيا وكانت الأموال تجبى إليه من جميع بلاد الاسلام إلا من الشام، فكان يفرقها ويمزقها، ثم يقول:
هذا جناي وخياره فيه إذ كل جان يده إلى فيه (4)