وكان صحيحه أول الصحاح، وقد وضع شروطا حكم على أساسها بصحة الحديث أو ضعفه وصحة الاسناد أو إعلاله، وتبعه مسلم بن الحجاج فألف كتابه المعروف بصحيح مسلم، فسمى الناس هذين الكتابين بالصحيحين ولقب مسلم والبخاري بالشيخين، وكانت كتب الحديث قبلهما مصنفات يختلط فيها الصحيح بالضعيف بالمتروك والمجهول ولا يمكن الجزم بصحة الحديث فيها إلا بعد البحث والتمحيص حول الرواة والمتن خاصة والعصر كان عصر أصحاب الأهواء والاتجاهات المتصارعة، والمدلسون والوضاعون كل يضع الأحاديث ليروج بها لمذهبه ورأيه. أي على عكس ما كان الامر في عصر الصحابة لشدة عنايتهم وتوخيهم ألا ينقلوا إلا الصحيح لفظا ومعنى.
ولما نشأت الفتنة واختلف المسلمون في الخلافة وانقسموا حولها وخرج الخوارج، فكان بعضهم إذا أعوزهم الحديث ليقيموا به حجة على أخصامهم وضعوا حديثا من عند أنفسهم ثم أذاعوه بين الناس. وعندما هدأت الأمور وعادت إلى نصابها انبرى المسلمون وعلى الأخص علماء الحديث للتفريق بين هذه الأحاديث الموضوعة وبين الأحاديث الصحيحة، فجمعوا الأحاديث أولا ولم يتركوا إلا ما يعرف بوضوح أنه موضوع مختلق من عند أصحاب الأهواء ثم بدأوا بعدها عملية البحث عن الرواة للتنقية، فمن ضبطت عليه كذبة تركوه وضعفوه وضعفوا ما روى أو ردوه عليه، وهكذا لم يأخذوا بصفة الصحيح الحسن إلا رواية العدل عن العدل والثقة عن الثقة.
وهكذا تفرعت علوم عديدة كلها في خدمة الحديث، سواء في علوم الرجال والرواة وأحوالهم وتأريخهم أو جرحهم وتعديلهم أو منازلهم من البداء وانتشارهم فيها، وعلم معرفة الحديث وعلم المصطلح وعلم الأنساب والشروح والتعليقات والحواشي إلخ.
وهكذا ظهرت المسانيد والسنن والموطآت بعد المصنفات وتختلف المصنفات عن المسانيد والسنن والصحاح بميزات عديدة منها: أولا: المسانيد: تجمع أحاديث وآثار كل صحابي على حدة مع أسانيدها المختلفة وربما يروى فيها الحديث الواحد نفسه روايات عديدة حسب التابعين وتابعيهم الذي نقلوه عن الصحابي ولهذا فهي مرتبة على هذا الأساس.
ثانيا: السنن: تجمع سنن الرسول صلى الله عليه وسلم وآثار الصحابة التي يرجح فيها الرفع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مرتبة على أبواب الفقه، ولذا فقد تجد للصحابي الواحد الحديث الواحد وقد كرر عدة مرات إن كان يحتوي على أكثر من سنة واحدة أو أثر واحد وصاحب السنن لا ينقل إلا ما يرى صحته أو يؤيد مذهبه الذي يقول به أو يدعو إليه.
ثالثا: الصحاح: وأشهر الصحاح وأوثقها: الجامع الصحيح للامام البخاري والجامع الصحيح للامام مسلم.
وهذه تتخذ أسلوبا ثالثا تعتمد فيه على شروط وضعها أصحابها لتعديل وتوثيق الرواة وتضعيفهم أو تركهم، ولذا فهي تنقل من الأحاديث ما تتفق أسانيده ورواته مع شروط الصحة التي وضعوها، فإذا طابقت هذه الشروط حديثان مختلفان فهي ترويهما جميعا وهذا على كل حال نادر في الصحاح.