بالكمالات الروحانية (ومعهم) من حيث الخلطة والمعاشرة الظاهرة (وليسوا معهم) من حيث الألفة بينهم والكراهة الباطنة فالاثبات من جهة والسلب جهة أخرى ولما كان الاثبات في الموضعين ظاهرا لا يحتاج إلى دليل أشار إلى دليل السلب فيهما بقوله وذلك (لان الضلالة لا توافق الهدى وان اجتمعا) على الوجه المذكور لان الضدين لا يجتمعان في محل واحد وكذا المتصف بهما وسر ذلك أن الإنسان مركب من جوهرين جوهر جسماني وجوهر روحاني والأخير مفقود فيهم فالاجتماع باعتبار الأول وعدمه باعتبار الثاني، وقد أوضحنا ذلك في شرح الأصول ثم أشار إلى بعض أوصافهم الذميمة بقوله (وقد اجتمع القوم على الفرقة) من الحق وأهله (وافترقوا عن الجماعة) فصارت طائفة مشبهة وطايفة مجسمة وطائفة معتزلية وطائفة أشعرية وطائفة حنبلية إلى غير ذلك من الملل الباطلة الحادثة في الاسلام، وبالجملة لم يكتفوا بالفرقة عن أهل الحق بل افترقوا في أنفسهم بفرق كثيرة وجماعات متعددة وللعبارة احتمال آخر فتأمل (قد ولوا أمرهم وأمر دينهم) الظاهر أن ضميرهم راجع إلى القوم وهم الفرق الضالة وأن المراد بالامر الامر المطلوب منهم والنافع لهم في الدنيا والآخرة واحتمال عوده إلى أهل الكتاب وهم الفرقة المحقة بعيد (من يعمل فيهم المكر والمنكر والرشا) بكسر الراء وضمها جمع الرشوة مثلثة وهي الجعل ورشا اعطاء إياها، ارتشى أخذها واسترشى طلبها (والقتل كأنهم أئمة الكتاب) المراد بأئمة الكتاب من يعلم ظاهره وباطنه ويكون الكتاب امامه ومقتداه في الأمور كلها (وليس الكتاب امامهم) لأنهم تركوا ما في الكتاب ولم يقتدوا به (ولم يبق عندهم من الحق إلا اسمه) إذ تركوا مدلوله واطلقوا هذا الاسم على ما هو باطل.
(ولم يعرفوا من الكتاب إلا خطه وزبره) الزبر بالفتح والسكون مصدر بمعنى الكتاب وبالكسر والسكون الكتاب كذا في الفايق (يدخل الداخل) في الدين (لما يسمع من حكم القرآن) الداعي إلى الدخول فيه (فلا يطمئن جالسا) ولا يتم جلوسه (حتى يخرج من الدين) فيكون دخوله مقارنا لخروجه لكونه منكرا لأعظم أصوله بالبدع التي أسسها المتقدمون ثم أشار إلى المثل المشهور وهو أن الناس على دين ملوكهم بقوله (ينتقل من دين ملك إلى دين ملك - آه) تنبيها على انهم بأهوائهم الفاسدة وتخيلاتهم الكاسدة يتبعون خلفاء بني أمية وبني مروان وبني عباس وحكامهم ويفعلون ما يؤمرون، ثم أشار إلى أن ذلك استدراج من الله عليهم بقوله (فاستدرجهم الله تعالى من حيث لا يعلمون) فكلما جددوا خطيئة جدد الله تعالى لهم نعمة وزاد لهم قوة ليغتروا وينسوا الرجوع والاستغفار فيأخذهم بالآخرة اخذا شديدا وهذا من كيده تعالى (وان كيده متين) أي قوى شديد ولما كانوا من أهل الكيد عد جزاء كيدهم كيدا لوقوعه في صحبته تقديرا كما يعد جزاء سيئة سيئة من باب المشاكلة بالامل والرجاء لمتاع الدنيا وما عند