أي هو بهذين الوصفين في حال عوده إلى الله وابتداء وجوده من الله فبنوره اهتدى من اهتدى في الدنيا ونجى من نجى في الآخرة (عذرا أو نذرا) علتان للبعث ومصدران لعذرت عذرا إذا محوت الإساءة وطمستها وأنذرت انذارا ونذرا إذا علمته وحذرته وخوفته يعني بعثه لأجل محو إساءة المطيعين، لأنه رحمة للمؤمنين وانذار المخالفين وتخويفهم على مخالفتهم ويحتمل أن يراد بالأول أنه بعثه لأجل أن يكون له عذر في عقوبتهم وتعذيبهم كما قال (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) ونظيره ما روي عنه (صلى الله عليه وآله) من طريق العامة «من يعذرني عن رجل قد بلغني عنه كذا وكذا» أي من يقوم بعذري ان كافأته على سوء صنيعه فلا يلومني والله اعلم (بحكم قد فصله) تفصيلا رافعا للاشتباه والحكم هنا شامل للاحكام الشرعية والاحكام الوضعية والجار متعلق ببعث (وتفصيل قد أحكمه) أي أتقنه على وجه لا يجوز تبديله ولا أن يقال خلافه أحسن منه ولعل التفصيل إشارة إلى أنواع الفقه مثل الطهارات والعبادات والايقاعات والعقودات وغيره (وفرقان قد فرقه) الفرقان من أسماء القرآن سمي به لأنه فارق بين الحق والباطل والحلال والحرام وقد يطلق على كل ما يفرق به بينهما و «فرقه» بالتخفيف أحكمه وبالتشديد أنزله في أيام متفرقة ليسهل على القلب واللسان والسمع تحملها (وقرآن قد بينه) أي بين ظاهره وباطنه ومحكمه ومتشابهه ومطلقه ومقيده ومجمله ومفصله وكل ما فيه (ليعلم العباد ربهم إذ جهلوه) في ذكر الرب توبيخ لهم على الغفلة إذ جهل المربوب بربه دليل واضح على غاية حماقته.
(وليقروا به إذ جحدوه وليثبتوه بعد إذ أنكروه) الظاهر أن المراد بالعلم العلم التصوري وبالاقرار التصديق بوجوده وبالاثبات الاقرار بوجوده لسانا ففيه اشعار بأن العباد قبل البعثة لكونهم واغلين في الجهالة لم يدخل في قلوبهم تصور الصانع فضلا عن الأخيرين، ويحتمل أن يراد بالعلم العلم بصفاته وبالاقرار التصديق بوجود ذاته وبالاثبات اثباتهما على نحو ما نطقت به السنة الشرع إذ بمجرد معرفة الذات والصفات بدون معرفة وجه الارتباط بينهما لا يتحقق معرفة الصانع والتوحيد المطلق وقد بينا ذلك مفصلا في شرح التوحيد (فتجلى لهم سبحانه في كتابه من غير أن يكونوا رأوه) التجلي الانكشاف والظهور وسبحانه مصدر منصوب بفعل مقدر ومن ابتدائية كما في قوله (انه من سليمان) وقوله تعالى (من المسجد الحرام) وهي مع مدخولها قرينة لصرف التجلي عن ظاهره إلى خلافه ومعناه انكشف وظهر لهم في كتابه عن الحجب المظلمة الطبيعية من غير أن يكونوا رأوه بالرؤية العينية لأنها عليه محال كما مر في كتاب التوحيد بل ظهر فيه بسبب اظهار عظمته المطلقة وقدرته الكاملة وحكمته البالغة بذكر ايجاد الكائنات من الأرضين والسماوات والنجوم الثوابت والسيارات وخلق الإنسان ومراتبه وخلق الجبال والبحار وأنواع الحيوانات على غير ذلك مما لا تبلغه عقول العقلاء ولا تدركه فحول العلماء