وأربعين ومائة (149 ه) فنزلت القادسية فبينما أنا أنظر الناس إذ نظرت إلى شاب حسن الوجه، شديد السمرة نحيف، فوق ثيابه صوف مشتمل بشملة، في رجليه نعلان وقد جلس منفردا. فقلت في نفسي: هذا الفتى من الصوفية ويريد أن يخرج مع الناس فيكون كلا عليهم.. والله لأمضين إليه ولأوبخنه. فدنوت منه فلما رآني قال: يا شقيق اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم، وتركني وولى.
فقلت في نفسي إن هذا الامر عظيم تكلم على ما في خاطري ونطق باسمي، هذا عبد صالح، لألحقنه وأسأله الدعاء وأن يحللني مما ظننته به فغاب عني.
فلما نزلنا واقضة فإذا هو واقف يصلي فصبرت حتى فرغ من صلاته فالتفت إلي وقال: يا شقيق (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى) ثم قام ومضى وتركني. فقلت هذا الفتى من الابدال لقد تكلم على سري مرتين.
فلما نزلنا زبالا (اسم منزل) وإذا أنا بالفتى قائم على البئر. وبيده ركوة (قربة) يريد أن يستقي فيها الماء، فسقطت الركوة من يده في البئر فرمق إلى السماء بطرفه وسمعته يقول: أنت ربي إذا ظمئت.. ثم قال اللهم إلهي وسيدي ما لي سواك. فلا تعدمنيها. قال شقيق فوالله لقد رأيت الماء ارتفع إلى رأس البئر والركوة طافية عليه فمد يده وأخذها ملأ، فتوضى منها وصلى أربع ركعات. ثم مال إلى كثيب رمل فجعل يقبض بيده ويجعل في الركوة ويحركها ويشرب فأقبلت نحوه وسلمت عليه فقلت أطعمني من فضل ما أنعم الله عليك فقال: يا شقيق، لم تزل نعم الله ظاهرة وباطنة فأحسن ظنك بربك. ثم ناولني الركوة فشربت منها فإذا هو سويق وسكر فوالله ما شربت قط ألذ منه ولا أطيب. فشبعت ورويت وأقمت أياما لا أشتهي طعاما ولا شرابا.