إمتاع الأسماع - المقريزي - ج ٣ - الصفحة ٨٥
اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبل بيت المقدس وأهل الكتاب، فلما ولي وجهه قبل البيت أنكروا ذلك.
قال زهير: حدثنا أبو إسحاق في حديثه عن البراء أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا، فلم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله عز وجل: (وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم) (1)، ذكره في كتاب الإيمان (2)،

(١) آية ١٤٤ / البقرة، ورواية البخاري حتى (إيمانكم).
(٢) (فتح الباري): ١ / ١٢٨، كتاب الإيمان، باب (٣٠)، الصلاة من الإيمان، وقول الله تعالى:
(وما كان الله ليضيع إيمانكم) يعني صلاتكم عند البيت، حديث رقم (٤٠).
قوله: " يعني صلاتكم عند البيت "، وقع التنصيص على هذا التفسير من الوجه الذي أخرج منه البخاري حديث الباب، فروى الطيالسي والنسائي، من طريق شريك وغيره عن أبي إسحاق عن البراء في الحديث المذكور: " فأنزل الله: (وما كان الله ليضيع أيمانكم) صلاتكم إلى بيت المقدس ".
وعلى هذا فقول البخاري: " عند البيت " مشكل، مع أنه ثابت عنه في جميع الروايات، ولا اختصاص لذلك بكونه عند البيت، وقد قيل إن فيه تصحيفا، والصواب يعني صلاتكم لغير البيت.
قال الحافظ ابن حجر: وعندي أنه لا تصحيف فيه، بل هو صواب ومقاصد البخاري في هذه الأمور دقيقة، وبيان ذلك أن العلماء اختلفوا في الجهة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوجه إليها للصلاة وهو بمكة، فقال ابن عباس وغيره: كان يصلي إلى بيت المقدس، ولكنه لا يستدبر الكعبة، بل يجعلها بينه وبين بيت المقدس.
وأطلق آخرون: أنه كان يصلي إلى بيت المقدس، وقال آخرون: كان يصلي إلى الكعبة، فلما تحول إلى المدينة استقبل بيت المقدس، وهذا ضعيف، ويلزم منه دعوى النسخ مرتين، والأول أصح، لأنه يجمع بين القولين، وقد صححه الحاكم وغيره من حديث ابن عباس.
وكأن البخاري أراد الإشارة إلى الجزم بالأصح، من أن الصلاة لما كانت عند البيت، كانت إلى بيت المقدس، واقتصر على ذلك اكتفاء بالأولوية، لأن صلاتهم إلى غير جهة البيت وهم عند البيت إذا كانت لا تضيع، فأحرى أن لا تضيع إذا بعدوا عنه، فتقدير الكلام: يعني صلاتكم التي صليتموها عند البيت إلى بيت المقدس.
قوله: " قبل بيت المقدس "، بكسر القاف وفتح الموحدة، أي إلى جهة بيت المقدس.
قوله: " ستة عشر شهرا أو سبعة عشر "، كذا وقع الشك في رواية زهير هذه هنا، وفي الصلاة أيضا عن أبي نعيم عنه، وكذا في رواية الثوري عنده، وفي رواية إسرائيل عند البخاري، وعند الترمذي أيضا. ورواه أبو عوانة في صحيحه، عن عمار بن رجاء وغيره عن أبي نعيم فقال: " ستة عشر " من غير شك، وكذا لمسلم من رواية أبي الأحوص، وللنسائي من رواية زكريا بن أبي زائدة وشريك، ولأبي عوانة أيضا من رواية عمار بن رزيق - بتقديم الراء مصغرا - كلهم عن أبي إسحاق، وكذا لأحمد بسند صحيح عن ابن عباس. وللبزار والطبراني من حديث عمرو بن عوف " سبعة عشر "، وكذا للطبراني عن ابن عباس.......
والجمع بين الروايتين سهل بأن يكون من جزم بستة عشر لفق من شهر القدوم وشهر التحويل شهرا وألغى الزائد، ومن جزم بسبعة عشر عدهما معا، ومن شك تردد في ذلك. وذلك أن القدوم كان في شهر ربيع الأول بلا خلاف، وكان التحويل في نصف شهر رجب من السنة الثانية على الصحيح، وبه جزم الجمهور.
ورواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس. وقال ابن حبان: " سبعة عشر شهرا وثلاثة أيام "، وهو مبني على أن القدوم كان في ثاني عشر شهر ربيع الأول.
وشذت أقوال أخرى: ففي ابن ماجة من طريق أبي بكر بن عياش، عن أبي إسحاق في هذا الحديث: " ثمانية عشر شهرا "، وأبو بكر سيئ الحفظ، وقد اضطرب فيه، فعند ابن جرير من طريقه في رواية: " سبعة عشر "، وفي رواية: " ست عشر "، وخرجه بعضهم على قول محمد ابن حبيب أن التحويل كان في نصف شعبان، وهو الذي ذكره النووي في (الروضة) وأقره، مع كونه رجح في شرحه لمسلم رواية " ستة عشر شهرا "، لكونها مجزوما بها عند مسلم، ولا يستقيم أن يكون ذلك في شعبان إلا إن ألغي شهري القدوم والتحويل.
وقد جزم موسى بن عقبة بأن التحويل كان في جمادي الآخرة، ومن الشذوذ أيضا رواية: " ثلاثة عشر شهرا "، ورواية: " تسعة أشهر "، و " عشرة أشهر "، ورواية: " شهرين "، ورواية:
" سنتين "، وهذه الأخيرة يمكن حملها على الصواب. وأسانيد الجمع ضعيفة، والاعتماد على القول الأول، فجملة ما حكاه تسع روايات.
قوله: " وأنه صلى أول "، بالنصب لأنه مفعول صلى، والعصر كذلك على البداية، وأعربه ابن مالك بالرفع، وفي الكلام مقدر لم يذكر لوضوحه، أي أو صلاة صلاها متوجها إلى الكعبة صلاة العصر. وعند ابن سعد: حولت القبلة في صلاة الظهر أو العصر - على التردد - وساق ذلك من حديث عمارة بن أوس قال: " صلينا إحدى صلاتي العشى ". والتحقيق: أن أول صلاة صلاها في بني سلمة لما مات بشر بن البراء بن معرور الظهر، وأول صلاة صلاها بالمسجد النبوي العصر، وأما الصبح فهو من حديث ابن عمر بأهل قباء، وهل كان ذلك في جمادي الآخرة أو رجب أو شعبان؟
أقوال.
قوله: " قبل مكة "، أي قبل البيت الذي في مكة، ولهذا قال: " فداروا كما هم قبل البيت "، و " ما " موصولة، والكاف للمبادرة، وقال الكرماني: للمقارنة، و " ما " مبتدأ وخبره محذوف.
قوله: " قد أعجبهم " أي النبي صلى الله عليه وسلم، (وأهل الكتاب): هو بالرفع عطفا على اليهود، من عطف العام على الخاص. وقيل: المراد النصارى، لأنهم من أهل الكتاب، وفيه نظر، لأن النصارى لا يصلون لبيت المقدس! فكيف يعجبهم؟ وقال الكرماني: كان إعجابهم بطريق التبعية لليهود.
قال الحافظ ابن حجر: وفيه بعد لأنهم أشد الناس عداوة لليهود، ويحتمل أن يكون بالنصب، والواو بمعنى (مع)، أي يصلي مع أهل الكتاب إلى بيت المقدس، واختلف في صلاته إلى بيت المقدس وهو بمكة.
فروى ابن ماجة من طريق أبي بكر بن عياش المذكورة: " صلينا مع رسول الله صلي الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ثمانية عشر شهرا "، وصرفت القبلة إلى الكعبة بعد دخول المدينة بشهرين "، وظاهره أنه كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس محضا، وحكى الزهري خلافا في أنه هل كان يجعل الكعبة خلف ظهره، أو يجعلها بينه وبين بيت المقدس؟
قال الحافظ ابن حجر: وعلى الأول فكان يجعل الميزاب خلفه، وعلى الثاني كان يصلي بين الركنين اليمانيين، وزعم ناس أنه لم يزل يستقبل الكعبة بمكة، فلما قدم المدينة استقبل بيت المقدس ثم نسخ، وحمل ابن عبد البر هذا على القول الثاني، ويؤيد حمله على ظاهره إمامة جبريل، ففي بعض طرقه أن ذلك عند باب البيت.
قوله: " أنكروا ذلك "، يعني اليهود، فنزلت: (سيقول السفهاء من الناس) وقد صرح البخاري بذلك في روايته عن طريق إسرائيل.
قوله: " قال زهير "، يعني ابن معاوية بالإسناد المذكور بحذف أداة العطف كعادته، ووهم قال إنه معلق، وقد ساقه البخاري في (التفسير)، مع جملة الحديث، عن أبي نعيم، عن زهير سياقا واحدا.
قوله: " أنه مات على القبلة "، أي قبلة بيت المقدس قبل أن تحول " لأجاب، وقتلوا "، ذكر القتل لم أره إلا في رواية زهير، وباقي الروايات إنما فيها ذكر الموت فقط، وكذلك روى أبو داود، والترمذي، وابن حبان، والحاكم، صحيحا عن ابن عباس، وكذلك والذين ماتوا بعد فرض الصلاة، وقبل تحويل القبلة من المسلمين عشر أنفس: فبمكة من قريش: (١) عبد الله بن شهاب. (٢) المطلب ابن أزهر الزهريان. (٣) السكران بن عمرو العامري.
وبأرض الحبشة منهم: (١) حطاب - بالمهملة - ابن الحارث الجمحي. (٢) عمرو بن أمية الأسدي. (٣) عبد الله بن الحارث السهمي.
(٤) عروة بن عبد العزى. (٥) عدي بن نضلة العدويان.
ومن الأنصار بالمدينة: (١) البراء بن معرور (بمهملات). (٢) أسعد بن زرارة، فهؤلاء العشرة متفق عليهم. ومات في المدة أيضا: إياس بن معاذ الأشهلي، لكنه مختلف في إسلامه.
قال الحافظ ابن حجر: ولم أجد في شئ من الأخبار أن أحدا من المسلمين قتل قبل تحويل القبلة، لكن لا يلزم من عدم الذكر عدم الوقوع، فإن كانت هذه اللفظة محفوظة، فتحمل على أن بعض المسلمين ممن لم يشتهر قتل في تلك المدة في غير الجهاد، ولم يضبط اسمه لقلة الاعتناء بالتاريخ إذ ذاك.
ثم وجدت في المغازي ذكر رجل اختلف في إسلامه، وهو سويد بن الصامت، فقد ذكر ابن إسحاق: أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم، قبل أن تلقاه الأنصار في العقبة، فعرض عليهم الإسلام فقال:
إن هذا القول حسن. وانصرف إلى المدينة فقتل بها في وقعة بعاث - بضم الموحدة وإهمال العين وآخره مثلثة - وكانت قبل الهجرة، قال: فكان قومه يقولون. لقد قتل وهو مسلم، فيحتمل أن يكون هو المراد. وذكر لي بعض الفضلاء: أنه يجوز أن يراد من قتل بمكة من المستضعفين كأبوي عمار، قلت: يحتاج إلى ثبوت أن قتلهما بعد الإسراء.
من فوائد هذا الحديث:
(1) الرد على المرجئة في إنكارهم تسمية أعمال الدين إيمانا.
(2) تغيير بعض الأحكام جائز إذ ظهرت المصلحة في ذلك. (3) بيان شرف المصطفى وكرامته على ربه لإعطائه له ما أحب من غير تصريح بالسؤال. (4) بيان ما كان في الصحابة من الحرص على دينهم والشفقة على إخوانهم، وقد وقع لهم نظير هذه المسألة لما نزل تحريم الخمر، كما يصح من حديث البراء أيضا فنزل: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين) (93 / المائدة)، وقوله تعالى:
(إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا) (30 / الكهف)، ولملاحظة هذا المعنى، عقب البخاري على هذا الباب بقوله: " باب حسن إسلام المرء " فذكر الدليل على أن المسلم إذا فعل الحسنة أثيب عليها، وهو الحديث رقم (41) من الباب (31) في كتاب (الإيمان). (فتح الباري) 1 / 128 - 133 حديث رقم (40).
(٨٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 80 81 82 83 84 85 88 89 90 92 93 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 ذكر مجيء الملك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برسالات ربه تعالى 3
2 ذكر الاختلاف في أول سورة من القرآن أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم 3
3 ذكر الاختلاف في شق صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، متى كان وأين وقع؟ 32
4 ذكر مجيء جبرئيل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الصورة التي خلقه الله عليها 39
5 ذكر كيفية إلقاء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم 45
6 ذكر تعليم جبرئيل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الوضوء والصلاة 53
7 وأما إقامة جبريل عليه السلام أوقات الصلاة للنبي صلى الله عليه وسلم وأنه أمه فيها 60
8 ذكر الجهة التي كان صلى الله عليه وسلم يستقبلها في صلاته 81
9 ذكر من قرن برسول الله صلى الله عليه وسلم من الملائكة 94
10 فصل في ذكر الفضائل التي خص الله تعالى بها نبيه ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم وشرفه بها على جميع الأنبياء 95
11 فأما أنه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين 96
12 وأما مخاطبة الله له بالنبوة والرسالة، ومخاطبة من عداه من الأنبياء باسمه 105
13 وأما دفع الله عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما قرفه به المكذبون، ونهى الله تعالى العباد عن مخاطبته باسمه 108
14 وأما دفع الله تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم ما قرفه المكذبون له 111
15 وأما مغفرة ذنبه من غير ذكره تعالى له خطأ ولا زلة 112
16 وأما أخذ الله تعالى الميثاق على جميع الأنبياء أن يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وينصروه إن أدركوه 116
17 وأما عموم رسالته إلى الناس جميعا وفرض الإيمان به على الكافة، وأنه لا ينجو أحد من النار حتى يؤمن به صلى الله عليه وسلم 122
18 وأما فرض طاعته، فإذا وجب الإيمان به وتصديقه بما جاء به وجبت طاعته لأن ذلك مما أتى به 132
19 وأما وجوب اتباعه وامتثال سنته والاقتداء بهديه صلى الله عليه وسلم 145
20 وأما أمر الكافة بالتأسي به قولا وفعلا 154
21 وأما اقتران اسم النبي صلى الله عليه وسلم باسم الله تعالى 167
22 وأما تقدم نبوته صلى الله عليه وسلم قبل تمام خلق آدم عليه السلام 169
23 ذكر التنويه بذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمن آدم عليه السلام 187
24 وأما شرف أصله، وتكريم حسبه، وطيب مولده صلى الله عليه وسلم 204
25 وأما أن أسماءه خير الأسماء 216
26 وأما قسم الله تعالى بحياته صلى الله عليه وسلم 221
27 وأما تفرده بالسيادة يوم القيامة على جميع الأنبياء والرسل وأن آدم ومن دونه تحت لوائه صلى الله عليه وسلم 224
28 فصل في ذكر المفاضلة بين المصطفى وبين إبراهيم الخليل صلوات الله عليهما وسلامه 241
29 وأما اختصاصه صلى الله عليه وسلم بالشفاعة العظمى يوم الفزع الأكبر 263
30 ذكر المقام المحمود الذي وعد الله تعالى به الرسول صلى الله عليه وسلم 288
31 تنبيه وإرشاد 292
32 إيضاح وتبيان 295
33 وأما حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الكوثر 297
34 وأما كثرة أتباعه صلى الله عليه وسلم 309
35 وأما الخمس التي أعطيها صلى الله عليه وسلم 311
36 وأما أنه بعث بجوامع الكلم وأوتي مفاتيح خزان الأرض 315
37 وأما تأييده بقتال الملائكة معه 319
38 وأما أنه خاتم الأنبياء 334
39 وأما أن أمته خير الأمم 338
40 وأما ذكره صلى الله عليه وسلم في كتب الأنبياء وصحفهم وإخبار العلماء بظهوره حتى كانت الأمم تنتظر بعثته صلى الله عليه وسلم 345
41 ثم جاءني محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم 378
42 وأوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم 379
43 ومن إعلامه في التوراة 385
44 ومن إعلامه في التوراة أيضا 386
45 ومن ذكر شعيا له 387
46 ومن ذكر شعيا له 388
47 وفي حكاية يوحنا عن المسيح 390
48 وفي إنجيل متى 391
49 وذكر شعيا طريق مكة فقال: 394
50 وأما سماع الأخبار بنبوته من الجن وأجواف الأصنام ومن الكهان 396