إمتاع الأسماع - المقريزي - ج ٣ - الصفحة ١٨٢

قوله صلى الله عليه وسلم: " فأيما رجل "، " أي " مبتدأ فيه معنى الشرط، و " ما " زائدة للتأكيد، وهذه صيغة عموم يدخل تحتها من لم يجد ماء ولا ترابا، ووجد شيئا من أجزاء الأرض، فإنه يتيمم به، ولا يقال:
هو خاص بالصلاة، لأنا نقول: لفظ حديث جابر مختصر، وفي رواية أبي أمامة عند البيهقي: " فأيما رجل من أمتي أتى الصلاة فلم يجد ماء، وجد الأرض طهورا ومسجدا. وعند الإمام أحمد: " فعنده طهوره ومسجده ". وفي رواية عمرو بن شعيب: " فأينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت ".
واحتج من خص التيمم بالتراب، بحديث حذيفة عند الإمام مسلم بلفظ: " وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء "، وهذا خاص، فينبغي أن يحمل العام عليه، فتختص الطهورية بالتراب، ودل الافتراق في اللفظ، حيث حصل التأكيد من جعلها مسجدا دون الآخر على افتراق الحكم، وإلا لعطف أحدهما على الآخر نسقا، كما في حديث الباب.
ومنع بعضهم الاستدلال بلفظ " التربة " على خصوصية التيمم بالتراب بأن قال: تربة كل مكان ما فيه من تراب أو غيره. وأجيب بأنه ورود في الحديث المذكور بلفظ " التراب "، أخرجه ابن خزيمة وغيره. وفي حديث علي: " وجعل التراب لي طهورا "، أخرجه الإمام أحمد والبيهقي بإسناد حسن، ويقوي القول بأنه خاص بالتراب، أن الحديث سبق لإظهار التشريف والتخصيص، فلو كان جائزا بغير التراب لما اقتصر عليه. قوله صلى الله عليه وسلم: " فليصل "، عرف مما تقدم أن المراد فليصل بعد أن تيمم.
قوله صلى الله عليه وسلم: " وأحلت لي الغنائم "، وللكشميهني " المغانم " وهي رواية الإمام مسلم، قال الخطابي:
كان من تقدم على ضربين، منهم من لم يؤذن له في الجهاد فلم تكن لهم مغانم، ومنهم من أذن له فيه، لكن كانوا إذا غنموا شيئا لم يحل لهم يأكلوه، وجاءت نار فأحرقته.. وقيل: المراد أنه خص بالتصرف في الغنيمة يصرفها كيف يشاء، والأول أصوب، وهو أن من مضى تحل لهم المغانم أصلا.
قوله صلى الله عليه وسلم: " أعطيت الشفاعة "، قال ابن دقيق العيد: الأقرب أن اللام منها للعهد، والمراد الشفاعة العظمى في إراحة الناس من هول الموقف، ولا خلاف في وقوعها. وكذا جزم النووي وغيره.
وقيل: الشفاعة التي اختص بها أنه لا يرد فيما يسأل. وقيل: الشفاعة لخروج من في قلبه مثقال ذرة من إيمان، لأن شفاعة غيره تقع فيمن في قلبه أكثر من ذلك، قاله عياض. والذي يظهر لي أن هذه مع الأولى، لأنه يتبعها بها.
وقال البيهقي: يحتمل أن الشفاعة التي يختص بها أن يشفع لأهل الصغار والكبار، وغيره إنما يشفع لأهل الصغار دون الكبار. ونقل عياض أن الشفاعة المختصة به شفاعة لا ترد. وقد وقع في حديث ابن عباس: " وأعطيت الشفاعة، فأخرتها لأمتي، فهي لمن لا يشرك بالله شيئا ". وفي حديث عمرو بن شعيب: " فهي لكم ولمن شهد الله أن لا إله إلا الله "، والظاهر أن المراد بالشفاعة المختصة في هذا الحديث إخراج من ليس عمل صالح إلا توحيد، وهو مختص أيضا بالشفاعة الأولى، لكن جاء التنويه بذكر هذه لأنها غاية المطلوب من تلك لاقتضائها الراحة المستمرة.
وقد ثبتت هذه الشفاعة في رواية الحسن عن أنس في كتاب التوحيد: " ثم أرجع إلى ربي في الرابعة فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله، فيقول: وعزتي وجلالي لأخرجن منها من قال:
لا إله إلا الله ". ولا يعكر علي ذلك ما وقع عند مسلم قبل قوله: " وعزتي " فيقول: " ليس ذلك، وعزتي.. الخ "، لأن المراد أنه لا يباشر الإخراج كما في المرات الماضية، بل كانت الشفاعة سببا في ذلك.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " وبعثت إلى الناس عامة "، فوقع في رواية مسلم: " وبعثت إلى كل أحمر وأسود "، فقيل: المراد بالأحمر العجم، والأسود العرب، وقيل: الأحمر الإنس، والأسود الجن، وعلى الأول التنصيص على الإنس من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، لأنه مرسل إلى الجميع، وأصرح الروايات في ذلك وأشملها، رواية أبي هريرة عند مسلم: " وأرسلت إلى الخلق كافة ".
قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): أول حديث أبي هريرة هذا: " فضلت على الأنبياء بست "، فذكر الخمس المذكورة في حديث جابر إلا الشفاعة، وزاد خصلتين وهم: " وأعطيت جوامع الكلم، وختم بي النبيون "، فتحمل منه ومن حديث جابر سبع خصال.
ولمسلم أيضا من حديث حذيفة: " فضلنا على الناس بثلاث خصال: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة "، وذكر خصلة الأرض كما تقدم، قال: وخصلة الأخرى، وهي الخصلة المهمة بينها ابن خزيمة والنسائي، وهي: " وأعطيت هذه الآيات من سورة البقرة من كنز تحت العرش "، يشير إلى ما حطه الله عن أمته من الإصر، وتحميل ما لا طاقة لهم به، ورفع الخطاء والنسيان، فصارت الخصال تسعا.
ولأحمد من حديث علي: " أعطيت أربعا لم يعطهن أحد من أنبياء الله: أعطيت مفاتيح الأرض، وسميت أحمد، وجعلت أمتي خير الأمم " وذكر خصلة التراب فصارت الخصال اثنتي عشرة خصلة.
وعند البزار من وجه آخر عن أبي هريرة رفعه: " فضلت على الأنبياء بست: غفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، وجعلت أمتي خير الأمم، وأعطيت الكوثر، وإن صاحبكم لصاحب لواء الحمد يوم القيامة، تحته آدم فمن دونه "، وذكر ثنتين مما تقدم.
وله من حديث ابن عباس رفعه: " فضلت على الأنبياء بخصلتين: كان شيطاني كافرا فأعانني الله عليه فأسلم " قال: ونسيت الأخرى، قال الحافظ ابن حجر: فينتظم بهذا سبع عشرة خصلة. ويمكن أن يوجد أكثر من ذلك لمن أمعن التتبع. وقد تقدم طريق الجمع بين هذه الروايات، وأنه لا تعارض فيها.
وقد ذكر أبو سعيد النيسابوري في كتاب (شرف المصطفى)، أن عدد الذي اختص به نبينا صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء ستون خصلة. وفي حديث الباب من الفوائد غير ما تقدم:
[١] مشروعية تعديد نعم الله. [٢] إلقاء العلم قبل السؤال.
[٣] أن الأصل في الأرض الطهارة. [٤] أن صحة الصلاة لا تختص بالمسجد المبني لذلك.
وأما حديث: " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد " فضعيف، أخرجه الدارقطني من حديث جابر. واستدل به صاحب (المبسوط) من الحنفية على إظهار كرامة الآدمي وقال: لأن الآدمي خلق من ماء وتراب، وقد ثبت أن كل منهما طهور، ففي ذلك بيان كرامته. قال محققه:
وحديث جابر، يغني عنه ما رواه ابن ماجة، وابن حبان، والحاكم بإسناد حسن عن ابن عباس مرفوعا: " من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر "، وما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة: " أن رجلا أعمى سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال نعم، قال: فأجب "، وهذا في الفرائض كما هو معلوم، أما النافلة فلا تختص بالمسجد بل هي في البيت أفضل، إلا ما للشرع دليل على استثنائه. والله تعالى أعلم. (فتح الباري):
1 / 574 كتاب التيمم باب (1) حديث (335).
(١٨٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 177 178 179 181 182 182 186 187 188 189 190 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 ذكر مجيء الملك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برسالات ربه تعالى 3
2 ذكر الاختلاف في أول سورة من القرآن أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم 3
3 ذكر الاختلاف في شق صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، متى كان وأين وقع؟ 32
4 ذكر مجيء جبرئيل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الصورة التي خلقه الله عليها 39
5 ذكر كيفية إلقاء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم 45
6 ذكر تعليم جبرئيل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الوضوء والصلاة 53
7 وأما إقامة جبريل عليه السلام أوقات الصلاة للنبي صلى الله عليه وسلم وأنه أمه فيها 60
8 ذكر الجهة التي كان صلى الله عليه وسلم يستقبلها في صلاته 81
9 ذكر من قرن برسول الله صلى الله عليه وسلم من الملائكة 94
10 فصل في ذكر الفضائل التي خص الله تعالى بها نبيه ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم وشرفه بها على جميع الأنبياء 95
11 فأما أنه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين 96
12 وأما مخاطبة الله له بالنبوة والرسالة، ومخاطبة من عداه من الأنبياء باسمه 105
13 وأما دفع الله عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما قرفه به المكذبون، ونهى الله تعالى العباد عن مخاطبته باسمه 108
14 وأما دفع الله تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم ما قرفه المكذبون له 111
15 وأما مغفرة ذنبه من غير ذكره تعالى له خطأ ولا زلة 112
16 وأما أخذ الله تعالى الميثاق على جميع الأنبياء أن يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وينصروه إن أدركوه 116
17 وأما عموم رسالته إلى الناس جميعا وفرض الإيمان به على الكافة، وأنه لا ينجو أحد من النار حتى يؤمن به صلى الله عليه وسلم 122
18 وأما فرض طاعته، فإذا وجب الإيمان به وتصديقه بما جاء به وجبت طاعته لأن ذلك مما أتى به 132
19 وأما وجوب اتباعه وامتثال سنته والاقتداء بهديه صلى الله عليه وسلم 145
20 وأما أمر الكافة بالتأسي به قولا وفعلا 154
21 وأما اقتران اسم النبي صلى الله عليه وسلم باسم الله تعالى 167
22 وأما تقدم نبوته صلى الله عليه وسلم قبل تمام خلق آدم عليه السلام 169
23 ذكر التنويه بذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمن آدم عليه السلام 187
24 وأما شرف أصله، وتكريم حسبه، وطيب مولده صلى الله عليه وسلم 204
25 وأما أن أسماءه خير الأسماء 216
26 وأما قسم الله تعالى بحياته صلى الله عليه وسلم 221
27 وأما تفرده بالسيادة يوم القيامة على جميع الأنبياء والرسل وأن آدم ومن دونه تحت لوائه صلى الله عليه وسلم 224
28 فصل في ذكر المفاضلة بين المصطفى وبين إبراهيم الخليل صلوات الله عليهما وسلامه 241
29 وأما اختصاصه صلى الله عليه وسلم بالشفاعة العظمى يوم الفزع الأكبر 263
30 ذكر المقام المحمود الذي وعد الله تعالى به الرسول صلى الله عليه وسلم 288
31 تنبيه وإرشاد 292
32 إيضاح وتبيان 295
33 وأما حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الكوثر 297
34 وأما كثرة أتباعه صلى الله عليه وسلم 309
35 وأما الخمس التي أعطيها صلى الله عليه وسلم 311
36 وأما أنه بعث بجوامع الكلم وأوتي مفاتيح خزان الأرض 315
37 وأما تأييده بقتال الملائكة معه 319
38 وأما أنه خاتم الأنبياء 334
39 وأما أن أمته خير الأمم 338
40 وأما ذكره صلى الله عليه وسلم في كتب الأنبياء وصحفهم وإخبار العلماء بظهوره حتى كانت الأمم تنتظر بعثته صلى الله عليه وسلم 345
41 ثم جاءني محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم 378
42 وأوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم 379
43 ومن إعلامه في التوراة 385
44 ومن إعلامه في التوراة أيضا 386
45 ومن ذكر شعيا له 387
46 ومن ذكر شعيا له 388
47 وفي حكاية يوحنا عن المسيح 390
48 وفي إنجيل متى 391
49 وذكر شعيا طريق مكة فقال: 394
50 وأما سماع الأخبار بنبوته من الجن وأجواف الأصنام ومن الكهان 396