قوله صلى الله عليه وسلم: " فأيما رجل "، " أي " مبتدأ فيه معنى الشرط، و " ما " زائدة للتأكيد، وهذه صيغة عموم يدخل تحتها من لم يجد ماء ولا ترابا، ووجد شيئا من أجزاء الأرض، فإنه يتيمم به، ولا يقال:
هو خاص بالصلاة، لأنا نقول: لفظ حديث جابر مختصر، وفي رواية أبي أمامة عند البيهقي: " فأيما رجل من أمتي أتى الصلاة فلم يجد ماء، وجد الأرض طهورا ومسجدا. وعند الإمام أحمد: " فعنده طهوره ومسجده ". وفي رواية عمرو بن شعيب: " فأينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت ".
واحتج من خص التيمم بالتراب، بحديث حذيفة عند الإمام مسلم بلفظ: " وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء "، وهذا خاص، فينبغي أن يحمل العام عليه، فتختص الطهورية بالتراب، ودل الافتراق في اللفظ، حيث حصل التأكيد من جعلها مسجدا دون الآخر على افتراق الحكم، وإلا لعطف أحدهما على الآخر نسقا، كما في حديث الباب.
ومنع بعضهم الاستدلال بلفظ " التربة " على خصوصية التيمم بالتراب بأن قال: تربة كل مكان ما فيه من تراب أو غيره. وأجيب بأنه ورود في الحديث المذكور بلفظ " التراب "، أخرجه ابن خزيمة وغيره. وفي حديث علي: " وجعل التراب لي طهورا "، أخرجه الإمام أحمد والبيهقي بإسناد حسن، ويقوي القول بأنه خاص بالتراب، أن الحديث سبق لإظهار التشريف والتخصيص، فلو كان جائزا بغير التراب لما اقتصر عليه. قوله صلى الله عليه وسلم: " فليصل "، عرف مما تقدم أن المراد فليصل بعد أن تيمم.
قوله صلى الله عليه وسلم: " وأحلت لي الغنائم "، وللكشميهني " المغانم " وهي رواية الإمام مسلم، قال الخطابي:
كان من تقدم على ضربين، منهم من لم يؤذن له في الجهاد فلم تكن لهم مغانم، ومنهم من أذن له فيه، لكن كانوا إذا غنموا شيئا لم يحل لهم يأكلوه، وجاءت نار فأحرقته.. وقيل: المراد أنه خص بالتصرف في الغنيمة يصرفها كيف يشاء، والأول أصوب، وهو أن من مضى تحل لهم المغانم أصلا.
قوله صلى الله عليه وسلم: " أعطيت الشفاعة "، قال ابن دقيق العيد: الأقرب أن اللام منها للعهد، والمراد الشفاعة العظمى في إراحة الناس من هول الموقف، ولا خلاف في وقوعها. وكذا جزم النووي وغيره.
وقيل: الشفاعة التي اختص بها أنه لا يرد فيما يسأل. وقيل: الشفاعة لخروج من في قلبه مثقال ذرة من إيمان، لأن شفاعة غيره تقع فيمن في قلبه أكثر من ذلك، قاله عياض. والذي يظهر لي أن هذه مع الأولى، لأنه يتبعها بها.
وقال البيهقي: يحتمل أن الشفاعة التي يختص بها أن يشفع لأهل الصغار والكبار، وغيره إنما يشفع لأهل الصغار دون الكبار. ونقل عياض أن الشفاعة المختصة به شفاعة لا ترد. وقد وقع في حديث ابن عباس: " وأعطيت الشفاعة، فأخرتها لأمتي، فهي لمن لا يشرك بالله شيئا ". وفي حديث عمرو بن شعيب: " فهي لكم ولمن شهد الله أن لا إله إلا الله "، والظاهر أن المراد بالشفاعة المختصة في هذا الحديث إخراج من ليس عمل صالح إلا توحيد، وهو مختص أيضا بالشفاعة الأولى، لكن جاء التنويه بذكر هذه لأنها غاية المطلوب من تلك لاقتضائها الراحة المستمرة.
وقد ثبتت هذه الشفاعة في رواية الحسن عن أنس في كتاب التوحيد: " ثم أرجع إلى ربي في الرابعة فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله، فيقول: وعزتي وجلالي لأخرجن منها من قال:
لا إله إلا الله ". ولا يعكر علي ذلك ما وقع عند مسلم قبل قوله: " وعزتي " فيقول: " ليس ذلك، وعزتي.. الخ "، لأن المراد أنه لا يباشر الإخراج كما في المرات الماضية، بل كانت الشفاعة سببا في ذلك.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " وبعثت إلى الناس عامة "، فوقع في رواية مسلم: " وبعثت إلى كل أحمر وأسود "، فقيل: المراد بالأحمر العجم، والأسود العرب، وقيل: الأحمر الإنس، والأسود الجن، وعلى الأول التنصيص على الإنس من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، لأنه مرسل إلى الجميع، وأصرح الروايات في ذلك وأشملها، رواية أبي هريرة عند مسلم: " وأرسلت إلى الخلق كافة ".
قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): أول حديث أبي هريرة هذا: " فضلت على الأنبياء بست "، فذكر الخمس المذكورة في حديث جابر إلا الشفاعة، وزاد خصلتين وهم: " وأعطيت جوامع الكلم، وختم بي النبيون "، فتحمل منه ومن حديث جابر سبع خصال.
ولمسلم أيضا من حديث حذيفة: " فضلنا على الناس بثلاث خصال: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة "، وذكر خصلة الأرض كما تقدم، قال: وخصلة الأخرى، وهي الخصلة المهمة بينها ابن خزيمة والنسائي، وهي: " وأعطيت هذه الآيات من سورة البقرة من كنز تحت العرش "، يشير إلى ما حطه الله عن أمته من الإصر، وتحميل ما لا طاقة لهم به، ورفع الخطاء والنسيان، فصارت الخصال تسعا.
ولأحمد من حديث علي: " أعطيت أربعا لم يعطهن أحد من أنبياء الله: أعطيت مفاتيح الأرض، وسميت أحمد، وجعلت أمتي خير الأمم " وذكر خصلة التراب فصارت الخصال اثنتي عشرة خصلة.
وعند البزار من وجه آخر عن أبي هريرة رفعه: " فضلت على الأنبياء بست: غفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، وجعلت أمتي خير الأمم، وأعطيت الكوثر، وإن صاحبكم لصاحب لواء الحمد يوم القيامة، تحته آدم فمن دونه "، وذكر ثنتين مما تقدم.
وله من حديث ابن عباس رفعه: " فضلت على الأنبياء بخصلتين: كان شيطاني كافرا فأعانني الله عليه فأسلم " قال: ونسيت الأخرى، قال الحافظ ابن حجر: فينتظم بهذا سبع عشرة خصلة. ويمكن أن يوجد أكثر من ذلك لمن أمعن التتبع. وقد تقدم طريق الجمع بين هذه الروايات، وأنه لا تعارض فيها.
وقد ذكر أبو سعيد النيسابوري في كتاب (شرف المصطفى)، أن عدد الذي اختص به نبينا صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء ستون خصلة. وفي حديث الباب من الفوائد غير ما تقدم:
[١] مشروعية تعديد نعم الله. [٢] إلقاء العلم قبل السؤال.
[٣] أن الأصل في الأرض الطهارة. [٤] أن صحة الصلاة لا تختص بالمسجد المبني لذلك.
وأما حديث: " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد " فضعيف، أخرجه الدارقطني من حديث جابر. واستدل به صاحب (المبسوط) من الحنفية على إظهار كرامة الآدمي وقال: لأن الآدمي خلق من ماء وتراب، وقد ثبت أن كل منهما طهور، ففي ذلك بيان كرامته. قال محققه:
وحديث جابر، يغني عنه ما رواه ابن ماجة، وابن حبان، والحاكم بإسناد حسن عن ابن عباس مرفوعا: " من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر "، وما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة: " أن رجلا أعمى سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال نعم، قال: فأجب "، وهذا في الفرائض كما هو معلوم، أما النافلة فلا تختص بالمسجد بل هي في البيت أفضل، إلا ما للشرع دليل على استثنائه. والله تعالى أعلم. (فتح الباري):
1 / 574 كتاب التيمم باب (1) حديث (335).