في كل شئ بقاءه، فقد ثبت بهذا أنه لا حرج في فعله قطعا، ولا رجحان في فعله ظاهرا، فهذا الدليل يقتضي في كل أفعاله صلى الله عليه وسلم أن يكون مباحا ترك العمل به في الأفعال التي كونه واجبة أو مندوبة، فبقي معمولا به في الباقي، وإذا ثبت كونه مباحا ظاهرا وجب أن يكون في حقنا كذلك، للآية الدالة على وجوب التأسي ترك العمل به فيما إذا كان من خواصه، فبقي معمولا به في الباقي.
والجواب هنا: أنه في حقه صلى الله عليه وسلم كذلك، فلم يجب أن يكون في حق غيره كذلك؟ والله أعلم.
قال جمهور الفقهاء والمعتزلة: التأسي واجب، ومعنى ذلك أنا إذا علمنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم فعل فعلا على وجه الوجوب فقد تعبدنا أن نفعله على وجه الوجوب، وإن علمنا أنه مستقل به كنا متعبدين بالتنفل به، وإن علمنا أنه فعله على وجه الإباحة، كنا متعبدين باعتقاد إباحته، وجاز لنا أن لا نفعله.
وقال أبو علي بن خلاد - تلميذ أبي هاشم من المعتزلة -: نحن متعبدون بالتأسي به في العبادات دون غيرها كالمناكحات والمعاملات، ومن الناس من أنكر ذلك في الكل، احتج أبو الحسن بالقرآن والإجماع.
أما القرآن فقوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) والتأسي بالغير في أفعاله هو أن يفعل على وجه الذي فعل ذلك الغير، ولم يفرق الله تعالى بين أفعال النبي صلى الله عليه وسلم إذا كانت مباحة أو لم تكن مباحة.
وأما الإجماع: فهو أن السلف رجعوا إلى أزواجه صلى الله عليه وسلم في قبلة الصائم، وفي من أصبح جنبا لم يفسد صومه، وفي تزويج النبي ميمونة رضي الله عنها وهو حرام، وذلك يدل على أن أفعاله لا بد من أن يتمثل بها في طريقه.
ولقائل أن يقول: على الدليل الأول، الأمر يفيد التأسي به مرة واحدة، كما أن قول القائل لغيره: لك في الدار ثوب حسن، يفيد ثوبا واحدا، فإن قلت: هذا إن ثبت تم عرضا من التعبد بالتأسي به صلى الله عليه وسلم في الجملة، ولأنه يفيد إطلاق كون الشئ أسوة لنا، ولا يطلق وصف الإنسان بأنه أسوة لزيد إلا لم يجز لزيد وصف أن يتبعه إلا في واحد، وإنما يطلق ذلك لو كان ذلك الإنسان لزيد قدوة يهتدي به في