قال علي: وهذا دليل برهاني ضروري من أدلة حدوث النوع الانساني، ومن أدلة وجود الواحد الخالق الأول تبارك وتعالى، ومن أدلة وجود النبوة والرسالة لأنه لا سبيل إلى بقاء أحد من الناس ووجوده دون كلام، والكلام حروف مؤلفة، والتأليف فعل فاعل ضرورة لا بد له من ذلك، وكل فعل فعله فله زمان ابتدئ فيه، لان الفعل حركة تعدها المدد، فصح أن لهذا التأليف أولا، والانسان لا يوجد دونه. وما لم يوجد قبل ما له أول فله أول ضرورة، فصح أن للمحدث محدثا بخلافة، وصح أن ما علم من ذلك مما هو مبتدأ من عند الخالق تعالى مما ليس في الطبيعة معرفته دون تعليم فلا يمكن البتة معرفته إلا بمعلم علمه الباري إياه. ثم علم هو أهل نوعه ما علمه ربه تعالى.
قال علي: وأيضا فإن الاصطلاح على وضع لغة لا يكون ضرورة إلا بكلام متقدم بين المصطلحين على وضعها. أو بإشارات قد اتفقوا على فهمها. وذلك الاتفاق على فهم تلك الإشارات لا يكون إلا بكلام ضرورة ومعرفة حدود الأشياء وطبائعها التي عبر عنها بألفاظ اللغات لا يكون إلا بكلام وتفهيم. لابد من ذلك. فقد بطل الاصطلاح على ابتداء الكلام. ولم يبق إلا أن يقول قائل:
إن الكلام فعل الطبيعة.
قال علي: وهذا يبطل ببرهان ضروري. وهو أن الطبيعة لا تفعل إلا فعلا واحدا لا أفعالا مختلفة، وتأليف الكلام فعل اختياري متصرف في وجوه شتى.
وقد لجأ بعضهم إلى نوع من الاختلاط، وهو أن قال: إن الأماكن أوجبت بالطبع على ساكنيها النطق بكل لغة نطقوا بها.
قال علي: وهذا محال ممتنع، لأنه لو كانت اللغات على ما توجبه طبائع الأمكنة لما أمكن وجود كل مكان إلا بلغته التي يوجبها طبعه. وهذا يرى بالعيان بطلانه لان كل مكان في الأغلب قد دخلت فيه لغات شتى على قدر تداخل أهل اللغات ومجاورتهم. فبطل ما قالوا: وأيضا فليس في طبع المكان أن يوجب تسمية الماء ماء دون أن يسمى باسم آخر مركب من حروف الهجاء. ومن كابر في هذا، فإما مجاهر بالباطل وإما عديم عقل، لا بد له من أحد هذين الوجهين. فصح أنه توقيف من أمر الله عز وجل وتعليم منه تعالى.