لا تقتصروا على دعاء ثبور واحد (وادعوا ثبورا كثيرا) أي بحسب كثرة الدعاء المتعلق به لا بحسب كثرته في نفسه فإن ما يدعونه ثبور واحد في حد ذاته لكنه كلما تعلق به دعاء من تلك الأدعية الكثيرة صار كأنه ثبور مغاير لما تعلق به دعاء آخر منها وتحقيقه لا تدعوه دعاء واحدا وادعوه أدعية كثيرة فإن ما أنتم فيه من العذاب لغاية شدته وطول مدته مستوجب لتكرير الدعاء في كل آن وهذا أدل على فظاعة العذاب وهو له من جعل تعدد الدعاء وتجدده لتعدد العذاب بتعدد أنواعه وألوانه أو لتعدده بتجدد الجلود كما لا يخفى وأما ما قيل من أن المعنى إنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحدا إنما هو ثبور كثير إما لأن العذاب أنواع وألوان كل نوع منها ثبور لشدته وفظاعته أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا غيرها فلا غاية لهلاكهم فلا يلائم المقام كيف لا وهم إنما يدعون هلاكا ينهى عذابهم وينجيهم منه فلابد أن يكون الجواب إقناطا لهم من ذلك ببيان استحالته ودوام ما يوجب استدعاءه من العذاب الشديد وتقييد النهى والأمر باليوم لمزيد التهويل والتفظيع والتنبيه على أنه ليس كسائر الأيام المعهود (قل) تقريعا لهم وتهكما بهم وتحسيرا على ما فاتهم (أذلك) إشارة إلى ما ذكر من السعير باعتبار اتصافها بما فصل من الأحوال الهائلة وما فيه من معنى البعد للإشعار بكونها في الغاية القاصية من الهول والفظاعة أي قل لهم أذلك الذي ذكر من السعير التي أعتدت لمن كذب بالساعة وشأنها كيت وكيت وشأن أهلها ذيت وذيت (خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون) أي وعدها المتقون وإضافة الجنة إلى الخلد للمدح وقيل للتمييز عن جنات الدنيا والمراد بالمتقين المتصفون بمطلق التقوى لا بالمرتبة الثانية ولا الثالثة منها فقط (كانت) تلك الجنة (لهم) في علم الله تعالى أو في اللوح المحفوظ أو لأن ما وعده الله تعالى فهو كائن لا محالة فحكى تحققه ووقوعه (جزاء) على أعمالهم حسبما مر من الوعد الكريم (ومصيرا) ينقلبون إليه (لهم فيها ما يشاءون) أي ما يشاءونه من فنون الملاذ والمشتهيات وأنواع النعيم كما في قوله تعالى ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولعل كل فريق منهم يقتنع بما أتيح له من درجات النعيم ولا تمتد أعناق هممهم إلى ما فوق ذلك من المراتب العالية فلا يلزم الحرمان ولا تساوي مراتب أهل الجنان (خالدين) حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور لاعتماده على المبتدأ وقيل من فاعل يشاءون (كان) أي ما يشاءونه وقيل الوعد المدلول عليه بقوله تعالى وعد المتقون (على ربك وعدا مسؤولا) أي موعودا حقيقيا بأن يسأل ويطلب لكونه مما يتنافس فيه المتنافسون أو مسؤولا يسأله الناس في دعائهم بقولهم ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك أو الملائكة بقولهم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم وما في على من معنى الوجوب لامتناع الخلف في وعده تعالى ولا يلزم منه الإلجاء إلى الإنجاز فإن تعلق الإرادة بالموعود متقدم على الوعد الموجب للإنجاز وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من تشريفه والإشعار بأنه صلى الله عليه وسلم هو الفائز اثر ذي أثير بمغانم الوعد الكريم ما لا يخفى
(٢٠٧)