ذلك أقيلة أهل الهدى بالنسبة إلى أهل الضلال حسبما نطق به قوله تعالى «وقليل من عبادي الشكور» ونحو ذلك واعتبار كثرتهم الذاتية دون قلتهم الإضافة لتكميل فائدة ضرب المثل وتكثيرها ويجوز أن يراد في الأولين الكثرة من حيث العدد وفي الآخرين من حيث الفضل والشرف كما في قول من قال * إن الكرام كثير في البلاد * وأن قلوا كما غيرهم قل وإن كثروا * وإسناد الإضلال أي خلق الضلال إليه سبحانه مبني على أن جميع الشياء مخلوقة له تعالى وإن كان أفعال العباد من حيث الكسب مستندة إليهم وجعله من قبيل إسناد الفعل إلى سببه يأباه التصريح بالسبب وقرئ يضل به كثير ويهدي به كثير على البناء للمفعول وتكرير به مع جواز الاكتفاء بالأول لزيادة تقرير السببية وتأكيدها «وما يضل به» أي بالمثل أو بضربه «إلا الفاسقين» عطف على ما قبله وتكملة للجواب والرد وزيادة تعيين لمن أريد إضلالهم ببيان صفاتهم القبيحة المستتبعة له وإشارة إلى أن ذلك ليس إضلالا ابتدائيا بل هو تثبيت على ما كانوا عليه من فنون الضلال وزيادة فيه وقرئ وما يضل به إلا الفاسقون على البناء للمفعول والفسق في اللغة الخروج يقال فسقت الرطبة عن قشرها والفأرة من جحرها أي خرجت قال رؤية * يذهبن في نجد وغورا غائرا * فواسقا عن قصدها جوائرا * وفي الشريعة الخروج عن طاعة الله عز وجل بارتكاب الكبيرة التي من جملتها الإصرار على الصغيرة وله طبقات ثلاث الأولى التغابي وهو ارتكابها أحيانا مستقبحا لها والثانية الانهماك في تعاطيها والثالثة المثابرة عليها مع جحود قبحها وهذه الطبقة من مراتب الكفر فما لم يبلغها الفاسق لا يسلب عنه اسم المؤمن لاتصافه بالتصديق الذي عليه يدور الايمان ولقوله تعالى «وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا» والمعتزلة لما ذهبوا إلى أن الايمان عبارة عن مجموعة تصديق والإقرار والعمل والكفر عن تكذيب الحق وجحوده ولم يتسن لهم ادخال الفاسق في أحدهما فجعلوه قسما بين قسمي المؤمن والكافر لمشاركة كل واحد منهما في بعض أحكامه والمراد بالفاسقين ههنا العاتون الماردون في الكفر الخارجون عن حدوده ممن حكى عنهم ما حكى من انكار كلام الله تعالى والاستهزاء به وتخصيص الاضلال بهم مترتبا على صفة الفسق وما أجرى عليهم من القبائح للإيذان بأن ذلك هو الذي أعدهم للإضلال وأدى بهم إلى الضلال فإن كفرهم وعدولهم عن الحق وإصرارهم على الباطل صرفت وجوه أنظارهم عن التدبر في حكمة المثل إلى حقارة الممثل به حتى رسخت به جهالتهم وازدادت ضلالتهم فأنكروه وقالوا فيه ما قالوا «الذين ينقضون عهد الله» صفة للفاسقين للذم وتقرير ما هم عليه من الفسق والنقض فسخ التركيب من المركبات الحسية كالحبل والغزل ونحوهما واستعماله في ابطال العهد من حيث استعارة الحبل له لما فيه من ارتباط أحد كلامي المتعاهدين بالآخر فإن شفع بالحبل وأريد به العهد كان ترشيحا للمجاز وإن قرن بالعهد كان رمزا إلى ما هو من روادفه وتنبيها على مكانه وإن المذكور قد استعير له كما يقال شجاع يفترس أقرانه
(٧٥)