" ثم ": إشارة إلى البعيد، ويراد بها: إن أمين الوحي الإلهي نافذ الكلمة في عالم الملائكة، ومطاع عندهم، وإنه في ذروة الأمانة في عملية إبلاغ الرسالة.
وما نستشفه من الروايات: إن جبرائيل (عليه السلام) ينزل أحيانا وبصحبته جمع كبير من الملائكة في حال ابلاغه للآيات القرآنية المباركة، وهو ما يوحي بأنه مطاع بينهم، وهو ما ينبغي أن يكون في كل أمة تتبع رسولا، فلابد من طاعتها له.
وروي... أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لجبرائيل (عليه السلام) عند نزول هذه الآيات: " ما أحسن ما أثنى عليك ربك!: ذي قوة عند العرش مكين، مطاع ثم أمين، فما كانت قوتك؟ وما كانت أمانتك؟
فقال: أما قوتي فإني بعثت إلى مداين لوط وهي أربع مداين في كل مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذراري، فحملتهم من الأرض السفلى حتى سمع أهل السماوات أصواب الدجاج ونباح الكلاب، ثم هويت بهن فقلبتهن. وأما أمانتي، فإني لم أؤمر بشئ فعدوته إلى غيره " (1).
وينفي القرآن ما نسب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): وما صاحبكم بمجنون.
" الصاحب ": هو الملازم والرفيق والجليس، والوصف هذا مضافا إلى أنه يحكي عن تواضع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع جميع الناس... فلم يرغب يوما في الاستعلاء على أحد منكم، فإنه قد عاش بينكم حقبة طويلة، وجالسكم، فلمستم عن قرب رجاحة عقله وحسن درايته وأمانته، فكيف تنسبون له الجنون؟!
وكل ما في الأمر إنه قد جاءكم بعد بعثته بتعاليم تخالف تعصبكم الأعمى وتحارب أهواءكم الجاهلية، فما راق لكم الانضباط والترابط، وحبذتم الانفلات والتراخي، فوليتم الأدبار عن تعاليمه الربانية ونسبتم إليه الجنون، فرارا من هدي دعوته المباركة!