فالعلم والمعرفة بالشئ إنما يكمل إذا أخذ العارف معروفه صدقا، وأظهر ذلك في باطنه وظاهره، وجنانه وأركانه بأن يخضع له روحا وجسما، وهو الايمان المنبسط على سره وعلانيته، وهو قوله: " وكمال معرفته التصديق به ".
ثم هذا الخضوع المسمى بالتصديق به وإن جاز تحققه مع إثبات الشريك للرب المخضوع له كما يخضع عبدة الأصنام لله ولسائر آلهتهم جميعا لكن الخضوع بشئ لا يتم من غير انصراف عن غيره بالبداهة، فالخضوع لواحد من الالهة في معنى الاعراض عن غيره والاستكبار في الجملة عنه فلا يكمل التصديق بالله والخضوع لمقامه إلا بالاعراض عن عبادة الشركاء، والانصراف عن دعوة الالهة الكثيرة، وهو قوله: " وكمال التصديق به توحيده.
ثم إن للتوحيد مراتب مختلفة بعضها فوق بعض، ولا يكمل حتى يعطى الاله الواحد حقه من الألوهية المنحصرة، ولا يقتصر على مجرد تسميته إلها واحدا بل ينسب إليه كل ما له نصيب من الوجود والكمال كالخلق والرزق والاحياء والإماتة والاعطاء والمنع، وأن يخص الخضوع والعبادة به فلا يتذلل لغيره بوجه من الوجوه بل لا يرجى إلا رحمته، ولا يخاف إلا سخطه، ولا يطمع إلا فيما عنده، ولا يعكف إلا على بابه.
وبعبارة أخرى ان يخلص له علما وعملا، وهو قوله عليه السلام: " وكمال توحيده الاخلاص له ".
وإذا استوى الانسان على أريكة الاخلاص، وضمته العناية الإلهية إلى أولياء الله المقربين لاحت على بصيرته لوائح العجز عن القيام بحق المعرفة، وتوصيفه بما يليق بساحة كبريائه وعظمته فإنه ربما شاهد ان الذي يصفه تعالى به معان مدركة مما بين يديه من الأشياء المصنوعة، وأمور الفها من مشهوداته الممكنة، وهى صور محدودة مقيدة يدفع بعضها بعضا، ولا تقبل الائتلاف والامتزاج، انظر إلى مفاهيم الوجود والعلم والقدرة والحياة والرزق والعزة والغنى وغيرها.
والمعاني المحدودة يدفع بعضها بعضا لظهور كون كل مفهوم خلوا عن المفهوم الاخر كمعنى العلم عن معنى القدرة فإنا حين ما نتصور العلم نصرف عن القدرة فلا نجد معناها في معنى العلم، وإذا تصورنا معنى العلم وهو وصف من الأوصاف ننعزل عن