العمل بالأحكام ضامنة لاجرائها، وتعد اختيارية باختيارية مقدمتها وهى تكرر العمل، وتتصور في مواردها أوامر عقلية متعلقة بالأخلاق الفاضلة كالشجاعة والعفة والعدالة، ونواه عقلية تردع عن الأخلاق الرذيلة كالجبن والتهور والخمود والشره والظلم، وكذا يتصور لها عقاب وثواب يسميان بالعقاب والثواب العقليين كالمدح والذم.
وبالجملة تتحقق بذلك مرتبة من مراتب الذنب فوق المرتبة السابق ذكرها، وهى مرتبة التخلف عن الاحكام الخلقية والأوامر العقلية المتعلقة بها.
ولم تعد هذه الأوامر العقلية أوامر إلا من جهة التلازم بين الأعمال الواجبة التي تسوق إليها وبينها، فهناك حاكم يحكم بالوجوب ويأمر به وهو العقل الانساني ونظيره القول في تسمية النواهي العقلية نواهى، وهذا دأبنا في جميع موارد التلازم فإذا فرضنا العمل بأحد المتلازمين لا نلبث دون أن نأمر بإتيان الاخر ووجوبه، ونرى التخلف عن ذلك عصيانا لهذا الامر العقلي، وذنبا يستحق به نوع من المؤاخذة.
ويظهر من هنا أمر آخر وهو أن هذه الفضائل لما كانت مشتملة على واجبات لا محيص عن التلبس بها - ومثله اشتمال الرذائل على المحرمات - وعلى أمور مندوبة مستحبة هي كالزينة والهيئة الجميلة فيها - وهى الآداب الحسنة التي تتعلق بها أوامر عقلية استحسانية إلا أنها إذا فرضت ظرفا لاحد منا كان ما يلازمها من الآداب وهى مندوبة في نفسها - مأمورا به عقلا أمرا إيجابيا قضاء لحق الظرفية المفروضة، مثال ذلك أن البدوي العائش عيشة العشائر البدوية لما كان ظرف حياته بعيدا من المستوى المتوسط في الحياة الحضرية لا يؤاخذ إلا بالضروريات من أحكام المجتمع والسنن العامة التي يناله عقله وفهمه، وربما أتى بالوقيح من الأعمال أو الركيك من الأقوال فيغمض عنه الحضري معتذرا بقصور الفهم وبعد الدار من السواد الأعظم الذي تكرر مشاهدة الرسوم والآداب فيه أحسن معلم للناس القاطنين فيه.
ثم المتوسط من الناس الحضريين لا يؤاخذ بما يؤاخذ به الآحاد النوادر من المجتمع الذين هم أهل الفهم اللطيف والأدب الظريف، ولا عذر فيما يقع من المتوسط من الناس من ترك دقائق الأدب وظرائف القول والفعل إلا أن فهمه على قدر ما يأتي به، لا يشعر من لوازم الأدب بأزيد مما يأتي به وظرفه هو ظرفه.