غير أن التوحيد حكمه سار إلى أعمالهم متمكن فيها، والدليل عليه قوله: " لحبط عنهم ما كانوا يعملون " فلو لا أن الشرك جار في الأعمال متسرب فيها لم يستوجب حبطها فالتوحيد المنافى له كذلك.
ومعنى سراية التوحيد في الأعمال كون صورها تمثل التوحيد وتحاكيه محاكاة المرآة لمرئيها بحيث لو فرض أن التوحيد تصور لكان هو تلك الأعمال بعينها، ولو أن تلك الأعمال تجردت اعتقادا محضا لكانت هي هو بعينه.
وهذا المعنى كثير المصداق في الصفات الروحية فإنك ترى أعمال المتكبر يمثل ما في نفسه من صفة الكبر والخيلاء، وكذلك البائس المسكين يحاكي جميع حركاته وسكناته ما في سره من الذلة والاستكانة وهكذا.
ثم أدب تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فأمره أن يقتدى بهداية من سبقه من الأنبياء عليهم السلام لا بهم، والاقتداء إنما يكون في العمل دون الاعتقاد فإنه غير اختياري بحسب نفسه أي أن يختار أعمالهم الصالحة المبنية على التوحيد الصادرة عنهم عن تأديب عملي إلهي.
ونعني بهذا التأديب العملي ما يشير إليه قوله تعالى: " وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين " (الأنبياء: 37) فإن إضافة المصدر في قوله " فعل الخيرات " (الخ) تدل على أن المراد به الفعل الصادر منهم من خيرات فعلوها وصلاة أقاموها وزكاة آتوها دون مجرد الفعل المفروض فهذا الوحي المتعلق بالافعال في مرحلة صدورها منهم وحى تسديد وتأديب، وليس هو وحى النبوة والتشريع، ولو كان المراد به وحى النبوة لقيل: " وأوحينا إليهم أن افعلوا الخيرات وأقيموا الصلاة ة وآتوا الزكاة " كما في قوله تعالى: " ثم أوحينا إليك أن اتبع " (النحل: 123) وقوله: " وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة " يونس: 87) إلى غير ذلك من الآيات ومعنى وحى التسديد أن يخص الله عبدا من عباده بروح قدسي يسدده في أعمال الخير والتحرز عن السيئة كما يسددنا الروح الانساني في التفكر في الخير والشر، والروح الحيواني في اختيار ما نشتهيه من الجذب والدفع بالإرادة، وسيجئ الكلام المبسوط في ذلك إن شاء الله.
وبالجملة فقوله: " فبهداهم اقتده " تأديب إلهي إجمالي له صلى الله عليه وآله وسلم بأدب التوحيد