أرادوا أن يأكلوا منها، وهو غرض عقلائي، وقد تقدم أن هذا القول منهم كالتسليم لاستحقاقهم التوبيخ من عيسى عليه السلام والوعيد الشديد من الله لمن يكفر منهم بآية المائدة.
وذكر بعضهم: أن المراد بذكر الأكل إبانة أنهم في حاجة شديدة إلى الطعام ولا يجدون ما يسد حاجتهم. وذكر آخرون أن المراد: نريد أن نتبرك بأكله.
وأنت تعلم أن المعنى الذي قرر في كل من هذين الوجهين أمر لا يدل عليه مجرد ذكر الاكل، ولو كان مرادهم ذلك وهو أمر يدفع به التوبيخ لكان مقتضى مقام الاعتذار التصريح بذكره، وحيث لم يذكر شئ من ذلك مع حاجة المقام إلى ذكره لو كان مرادا فليس المراد بالاكل إلا مطلق معناه من حيث إنه غرض عقلائي هو أحد أجزاء غرضهم في اقتراح نزول المائدة.
الثاني: اطمئنان القلب وهو سكونه باندفاع الخطورات المنافية للخلوص والحضور.
والثالث: العلم بأنه (ع) قد صدقهم فيما بلغهم عن ربه، والمراد بالعلم حينئذ هو العلم اليقيني الذي يحصل في القلب بعد ارتفاع الخطورات والوساوس النفسانية عنه، أو العلم بأنه قد صدقهم فيما وعدهم من ثمرات الايمان كاستجابة الدعاء كما ذكره بعضهم، لكن يبعده أن الحواريين ما كانوا يسألون إنزال المائدة من السماء إلا بدعاء عيسى (ع) ومسألته، وبالجملة بإعجاز منه (ع) وقد كانوا رأوا منه (ع) آيات كثيرة فإنه (ع) لم يزل في حياته قرينا لايات إلهية كبرى، ولم يرسل إلى قومه ولم يدعهم دعوة إلا مع آيات ربه فلم يزالوا يرون ثمرات إيمانه من استجابة الدعاء إن كان المراد الثمرة التي هي استجابة دعائه (ع) وإن كان المراد الثمرة التي هي استجابة دعائهم أنفسهم فإنهم لم يسألوا نزول الآية بدعاء أنفسهم، ولم تنزل إلا بدعاء عيسى (ع).
الرابع: أن يكونوا عليها من الشاهدين عند ما يحتاج إلى الشهادة كالشهادة عند المنكرين، والشهادة عند الله يوم القيامة، فالمراد بها مطلق الشهادة، ويمكن أن يكون المراد مجرد الشهادة عند الله سبحانه كما وقع في بعض قولهم الذي حكاه الله تعالى إذ قال:
" ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين " (آل عمران: 53).
فقد تحصل أنهم - فيما اعتذروا به - ضموا أمورا جميلة مرضية إلى غرضهم الاخر