الانحراف والجور في الشهادة والاستهانة بأمر اليمين بالله فناسب أن يذكر في المقام بما يجرى بينه سبحانه وبين رسله يوم القيامة وهم شهداء على أممهم وأفضل الشهداء، حيث يسألهم الله سبحانه عن الذي أجابهم به أممهم وهم أعلم الناس بأعمال أممهم والشاهدون من عند الله عليهم فيجيبونه بقولهم: " لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب ".
فإذا كان الامر على هذه الوتيرة، وكان الله سبحانه هو العالم بكل شئ حق العلم فجدير بالشهود أن يخافوا مقام ربهم: ولا ينحرفوا عن الحق الذي رزقهم الله العلم به، ولا يكتموا شهادة الله فيكونوا من الاثمين والظالمين والفاسقين.
فقوله تعالى: " يوم يجمع، الخ " ظرف متعلق بقوله في الآية السابقة: " واتقوا الله، الخ " وذكر جمع الرسل دون أن يقال: " يوم يقول الله المرسل " لمكان مناسبة مع جمع الشهداء للشهادة كما يشعر به قوله: " تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله ".
وأما نفيهم العلم يومئذ عن أنفسهم بقولهم: " لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب " فإثباتهم جميع علوم الغيوب لله سبحانه على وجه الحصر يدل على أن المنفى ليس أصل العلم فإن ظاهر قولهم: " إنك أنت علام الغيوب " يدل على أنه لتعليل النفي، ومن المعلوم أن انحصار جميع علوم الغيب في الله سبحانه لا يقتضى رفع كل علم عن غيره وخاصة إذا كان علما بالشهادة، والمسؤول عنه أعني كيفية إجابة الناس لرسلهم من قبيل الشهادة دون الغيب.
فقولهم: " لا علم لنا " ليس نفيا لمطلق العلم بل لحق العلم الذي لا يخلو عن التعلق بالغيب فإن من المعلوم أن العلم إنما يكشف لعالمه من الواقع على قدر ما يتعلق بأمر من حيث أسبابه ومتعلقاته، والواقع في العين مرتبط بجميع أجزاء الخارج مما يتقدم على الامر الواقع في الخارج وما يحيط به مما يصاحبه زمانا فالعلم بأمر من الأمور الخارجية بحقيقة معنى العلم لا يحصل إلا بالإحاطة بجميع أجزاء الوجود ثم بصانعه المتعالى من أن يحيط به شئ، وهذا أمر وراء الطاقة الانسانية.
فلم يرزق الانسان من العلم في هذا الكون الذي يبهته التفكير في سعة ساحته، وتهوله النظرة في عظمة أجرامه ومجراته، ويطير لبه الغور في متون ذراته، ويأخذه الدوار إذا أراد الجرى بين هاتين الغايتين إلا اليسير من العلم على قدر ما يحتاج إليه في