إلا ليشهدوا على أممهم يوم القيامة بما هو حق الشهادة يومئذ، فلا محالة هم سيشهدون يومئذ كما قدر الله ذلك فقولهم يومئذ: " لا علم لنا " جرى على الأدب العبودي قبال الملك الحق الذي له الامر والملك يومئذ، وبيان لحقيقة الحال وهو أنه هو يملك العلم لذاته ولا يملك غيره إلا ما ملكه، ولا ضير أن يجيبوا بعد هذا الجواب بمالهم من العلم الموهوب المتعلق بأحوال أممهم، وهذا مما يؤيد ما قدمناه في البحث عن قوله تعالى:
" وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس، الآية " (البقرة: 143) في الجزء الأول من هذا الكتاب: أن هذا العلم والشهادة ليسا من نوع العلم والشهادة المعروفين عندنا وأنهما من العلم المخصوص بالله الموهوب لطائفة من عباده المكرمين.
وأما ثانيا فلان الله سبحانه أثبت العلم لطائفة من مقربي عباده يوم القيامة على ما له من الشأن، قال تعالى: " وقال الذين أوتوا العلم والايمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث " (الروم: 56) وقال تعالى: " وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم " (الأعراف: 46) وقال تعالى: " ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون " (الزخرف: 87) وعيسى بن مريم عليه السلام ممن تعمه الآية وهو رسول فهو ممن يشهد بالحق وهم يعلمون، وقال تعالى: " وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا " (الفرقان: 31) والمراد بالرسول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والذي تحكيه الآية من قوله هو بعينه جواب لما تشتمل عليه هذه الآية من السؤال أعني قوله تعالى: " فيقول ما ذا أجبتم " فظهر أن قول الرسل عليهم السلام: " لا علم لنا " ليس جوابا نهائيا كما تقدم.
وأما ثالثا فلان القرآن يذكر السؤال عن المرسلين والمرسل إليهم جميعا كما قال تعالى: " فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين " (الأعراف: 6) ثم ذكر عن الأمم المرسل إليهم جوابات كثيرة عن سؤالات كثيرة، والجواب يستلزم العلم كما أن السؤال يقرره، وقال أيضا فيهم: " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " (ق: 22)، وقال أيضا: ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون " (السجدة: 12) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، وإذا كانت الأمم - وخاصة المجرمون منهم - على علم في هذا اليوم فكيف يتصور أن يعدمه الرسل الكرام عليهم السلام فالمصير إلى ما قدمناه.