لكن الذي يلائم مقامنا هذا من البحث - وهو بحث قرآني - في تحليل معناها وكيفية اعتبارها بالتطبيق على الفطرة التي عليها بنى الاسلام أن نسلك طريقا آخر من البحث فنقول:
إن للعدالة وهى الاعتدال والتوسط بين النمطين: العالي والداني، والجانبين:
الافراط والتفريط قيمة حقيقية ووزنا عظيما في المجتمعات الانسانية، والوسط العدل هو الجزء الجوهري الذي يركن إليه التركيب والتأليف الاجتماعي فإن الفرد العالي الشريف الذي يتلبس بالفضائل العالية الاجتماعية، ويمثل بغية الاجتماع النهائية لا يجود منه الزمان إلا بالنزر القليل والواحد بعد الواحد، ومن المعلوم أنه لا يتألف المجتمع بالفرد النادر، ولا تتم به كينونته وإن كان هو العضو الرئيس في جثمانه حيثما وجد.
والفرد الدنئ الخسيس الذي لا يقوم بالحقوق الاجتماعية، ولا يتحقق فيه القدر المتوسط من أماني المجتمع ممن لا داعى له يدعوه إلى رعاية الأصول العامة الاجتماعية التي بها حياة المجتمع، ولا رادع له يردعه عن اقتحام الآثام الاجتماعية التي تهلك الاجتماع وتبطل التجاذب الواجب بين أجزائه، وبالجملة لا اعتماد على جزئيته في بنية الاجتماع ولا وثوق بتأثيره الحسن ونصيحته الصالحة.
وإنما الحكم لافراد المجتمع المتوسطين الذين تقوم بهم بنية المجتمع وتتحقق فيهم مقاصده ومآربه، وتظهر بهم آثاره الحسنة التي لم تأتلف أجزاؤه وأعضاؤه إلا للحصول عليها والتمتع بها.
هذا كله مما لا يرتاب فيه الانسان الاجتماعي عند أول ما يجيل نظره في هذا الباب.
فمن الضروري عنده أنه على حاجة شديدة في حياته الاجتماعية إلى أفراد في المجتمع يعتمد على سلوكهم الاجتماعي متلبسين بالاعتدال في الأمور والاحتراز عن الاسترسال في نقض القوانين ومخالفة السنن والآداب الجارية من غير مبالاة وانقباض في أبواب كثيرة كالحكومة والقضاء والشهادات وغيرها في الجملة.
وهذا الحكم الضروري أو القريب من الضروري عند الفطرة هو الذي يعتبره الاسلام في الشاهد، قال تعالى: " واشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر " (الطلاق: 2)، وقال تعالى: " شهادة