(كلام في الاحسان وهدايته والظلم واضلاله) هذه حقيقة ثابتة بينها القرآن الكريم كما ذكرناه آنفا، وهي كلية لا تقبل الاستثناء وقد ذكرها بألسنة مختلفة وبنى عليها حقائق كثيرة من معارفه، قال تعالى:
" الذي اعطى كل شئ خلقه ثم هدى " طه - 50، دل على أن كل شئ بعد تمام خلقه يهتدي بهداية من الله سبحانه إلى مقاصد وجوده وكمالات ذاته، وليس ذلك الا بارتباطه مع غيره من الأشياء واستفادته منها بالفعل والانفعال بالاجتماع والافتراق والاتصال والانفصال والقرب والبعد والاخذ والترك ونحو ذلك، ومن المعلوم ان الأمور التكوينية لا تغلط في آثارها، والقصود الواقعية لا تخطي ولا تخبط في تشخيص غاياتها ومقاصدها، فالنار في مسها الحطب مثلا وهي حارة لا تريد تبريده، والنامي كالنبات مثلا وهو نام لا يقصد إلا عظم الحجم دون صغره وهكذا، وقد قال تعالى: " ان ربي على صراط مستقيم " هود - 56، فلا تخلف ولا اختلاف في الوجود.
ولازم هاتين المقدمتين أعني عموم الهداية وانتفاء الخطأ في التكوين ان يكون لكل شئ روابط حقيقية مع غيره، وأن يكون بين كل شئ وبين الآثار والغايات التي يقصد لها طريق أو طرق مخصوصة هي المسلوكة للبلوغ إلى غايته والأثر المخصوص المقصود منه، وكذلك الغايات والمقاصد الوجودية انما تنال إذا سلك إليها من الطرق الخاصة بها والسبل الموصلة إليها، فالبذرة انما تنبت الشجرة التي في قوتها انباتها مع سلوك الطريق المؤدي إليها بأسبابها وشرائطها الخاصة، وكذلك الشجرة انما تثمر الثمرة التي من شأنها اثمارها، فما كل سبب يؤدي إلى كل مسبب، قال تعالى: " والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج الا نكدا " الأعراف - 58، والعقل والحس يشهدان بذلك والا اختل قانون العلية العام.
وإذا كان كذلك فالصنع والايجاد يهدي كل شئ إلى غاية خاصة، ولا يهديه إلى غيرها، ويهدي إلى كل غاية من طريق خاص لا يهدي إليها من غيره، صنع الله التي اتقن كل شئ، فكل سلسلة من هذه السلاسل الوجودية الموصلة إلى غاية واثر إذا فرضنا تبدل حلقة من حلقاتها أوجب ذلك تبدل اثرها لا محالة، هذا في الأمور التكوينية.